محمد بديع المرشد العام الثامن لجماعة الإخوان

محمد بديع المرشد العام الثامن لجماعة الإخوان

[escenic_image id="5514423"]

  لا ينسى كل من زاملوا محمد بديع في سجنه حالة البكاء التي كانت تنتابه بين وقت وآخر، وهو يردد  النشيد الإخواني الشهير "إن شاء اللـه هتفرج" ، كانوا يشفقون عليه، ويرونه غير قادر على تحمل آلام السجن ولا وحشة زنزانته مثل بقية إخوانه في الجماعة، بعضهم كان يطلق عليه البكَّاء، وآخرون كانوا يصفونه بالضعيف، لكنهم جميعًا اتفقوا على أنه لا يصلح أن يكون مرشدًا لجماعة الإخوان، كان اختياره للمنصب مفاجأة لم يتوقعوها، وإن كانوا يعرفون أنها من تدبير نائب الجماعة محمود عزت ليكون بديع مرشد الإعلام، وعزت الحاكم الفعلي  للإخوان، ومن البداية كانت المؤشرات تؤكد ما ذهبوا إليه، فلأول مرة  يتخذ مكتب الإرشاد قرارًا بمنع المرشد الجديد من الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام لمدة شهر، ليس هذا فحسب، بل وكما تؤكد مصادر فإن الجماعة اتخذت قرارًا بتشكيل مكتب إعلامي ينوب عن المرشد في جميع التصريحات التي تصدر عنه، وهى سابقة في تاريخ الجماعة، يعتبرها المتابعون للإخوان كاشفة بما فيه الكفاية عن مدى ضعف الرجل، وعدم قدرته على الإمساك بزمام الأمور. فيرون  فترة ولاية بديع الذي أصبح المرشد الثامن للجماعة، لن تكون إلا تكرارًا لولاية المرشد الرابع محمد حامد أبو النصر الذي كان مُغيبًا عن إدارة شئون الجماعة بسبب مرضه، وتولّى الأمر بدلًا منه مصطفى مشهور، والسيناريو المرشح للتكرار هذه المرة؛ أن يتحول بديع إلى مجرد واجهة أو مرشد روحي للجماعة، في حين يمسك محمود عزت بدفة الأمور.

هذا السيناريو يعيد إلى الأذهان واقعة شهيرة رُويت عن كمال السنانيري القيادي السابق بالجماعة أثناء فترة ولاية عمر التلمساني، حيث استدعى أحد أعضاء الإخوان وسأله "إذا أصدرت لك أمرًا وصدر أمر مخالف له من عمر التلمساني، فأي كلام تنفذ؟"فرد عليه الأخير :"كلامك هو الذي ينفذ يا أخ كمال".. فهل يرفع الإخوان الآن شعار :"أوامرك يا أخ عزت" هذا ما يتوقعه أغلب أعضاء الجماعة وإن لم يعبروا عنه علنًا خشية أن تطالهم  قرارات الإبعاد التي أصبحت عادة إخوانية تتكرر مع كل من يتخطى الخطوط الحمراء التي حددتها القيادات المتحكمة في مصير الجماعة وأعضائها.

حتى في كلماته المقتضبة التي حاول فيها بديع أن يبدو وكأنه جاء بتوجه جديد، وأنه ليس في خصومة مع النظام، سرعان ما عاد ليسقط في أخطاء كشفت هويته الحقيقية، وأكد أنه ليس سوى واجهة لتيار القطبيين القابض بقوة الآن على مقاليد الأمور في الجماعة، فقد قال بديع:" إن   "المرأة والقبطي لا يصلحان للرئاسة، ولو الشعب اختار أيهما فلن نوافق، لأنه مخالف للشريعة، ومن يخالف الإخوان ويرفض أن يستمر معنا بمبادئنا وأهدافنا، يتفضل مع السلامة"..

هكذا يفكر المرشد الثامن للإخوان بمثل ما يفكر محمود عزت، ومن قبله مهدي عاكف، وهكذا كشف بوضوح عن منهجه الذي ستدار به الجماعة خلال الفترة المقبلة، فلا مجال للخلاف الفكري أو التنظيمي مع الجماعة وإلا كان المصير هو الطرد، أما مساحة الاجتهاد فهي ضيقة للغاية وتصطدم دائما بما تعتبره الجماعة ثوابت شرعية - وإن كانت محل خلاف بين العلماء- مثل تولِّي المرأة والقبطي منصب رئيس الجمهورية.    

هذه المبادئ ليست بالتأكيد مجرد إملاءات ينفذها بديع دون وعي، أو لمجرد أنه  مغلوب على أمره داخل الجماعة، وإنما هي جزء من قناعاته الفكرية التي تكونت لديه داخل السجن الذي منح بديع خبرة إنسانية أثّرت بالتبعية على تعاطيه مع جميع شئون الحياة حتى بعد خروجه من السجن لاسيما أنه قضى فترة سجنه بجوار الرجل الذي صاغ للحركة الإسلامية طريقًا غير الطريق الذى كانت تسير فيه، وهو سيد قطب صاحب كتاب " معالم على الطريق" وأول من نظر لفكرة "جاهلية" المجتمع واعتداء البشر على سلطان اللـه في الأرض وأخص خصائص الألوهية بالاستناد إلى حاكمية البشر من دون اللـه ..هذه الأفكار التي أثّرت وما زالت تؤثر على شباب الحركات الإسلامية في العالم أجمع، واتخذتها بعض الحركات الإسلامية التي خرجت على المجتمع بالسلاح دستورًا لها، كان المرشد الحالي لجماعة الإخوان المسلمين هو أحد عناصر التنظيم المتهم بمحاولة تنفيذها على المجتمع بقوة السلاح، فهو واحد ممن يعترفون في كل مناسبة بأنهم فهموا القرآن بمنهج سيد قطب، الذي يرى أن:"هذا القرآن نزل في جو ساخن ولا يفهم إلا في الجو الساخن الذي نزل فيه".  

لكن اللافت للنظر، أن محمد بديع على الرغم من إخلاصه الشديد لسيد قطب وأفكاره، فإن جميع من تعامل معه يؤكد أنه رجل طيب القلب على عكس قطب، وربما هذه التركيبة المتناقضة في شخصية محمد بديع هي التي دعت دوائر من الإخوان إلى وصفه بأنه رجل يحمل "قلبًا صوفيًا  وفكرًا قطبيًا"، نسبة إلى سيد قطب، وفى كل الأحوال فإن العوامل التي صاحبت نشأته هي التي يمكن أن تفسر طبيعة خصال هذا الرجل.. فتشير  المعلومات التي وردت في بطاقة التعارف التي وزعتها الجماعة بمناسبة انتخاب بديع مرشدًا عامًا، إلى أن اسمه بالكامل؛ محمد بديع عبد المجيد سامي، ولد بالمحلة الكبرى فى 7-8-1943، أي أنه يبلغ من العمر 67 عاما. متزوج من السيدة سمية الشناوي، نجلة الحاج محمد على الشناوي، أحد أبرز قيادات الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين، وواحد من أبرز أعضاء التنظيم الخاص. له ثلاثة أبناء؛ مهندس وطبيب وصيدلانية. يعمل أستاذًا متفرغًا بقسم الباثولوجي، بكلية الطب البيطري، جامعة بني سويف.

هذه المعلومات المجردة لا يمكن أن تفسر أي شيء في تركيبة شخصية محمد بديع، إلا إذا صاحبتها تفاصيل  الرحلة التى خاصها الرجل داخل دروب الجماعة وخارجها، فحسبما أكد مقربون منه؛ فإنه نشأ في المحلة الكبرى لأسرة متدينة، إلا أنه لم يكن يعرف شيئًا عن جماعة الإخوان المسلمين حتى  عام 1959، عندما تعرّف إلى أحد أعضاء الإخوان المسلمين السوريين الحمويين، وهو الدكتور محمد سليمان النجار؛ الذي دعاه إلى الانضمام إلى جماعة الإخوان، فاقتنع بديع وأبدى حماسة واضحة لدعوة الجماعة يمكن ربطها إلى حد كبير بشخص سليمان النجار، الذي قال عنه بديع فيما بعد: إنه هو الذي تابعه بالتربية والتنشئة وعلاج الثغرات وسد النقائص.

هذه الحماسة هي التي دفعت بديع للموافقة على طلب عبد الفتاح إسماعيل؛ تاجر الغلال الدمياطي الذي كان يجوب محافظات مصر لتشكيل تنظيم يحمل الفكر الذي خطّه سيد قطب فى "معالم على الطريق" وكان بديع لا يزال طالبًا بكلية الطب البيطري، وأصبح في طليعة المنضمين للتنظيم الجديد الذى عرف بعد ذلك بتنظيم 1965.

 وقع بديع فى عشق كتابات سيد قطب، لدرجة أنه حسب قوله لم يعرف حلاوة القرآن إلا عبر كتاب قطب الشهير "فى ظلال القرآن" ومكّنته علاقة التواصل مع "حميدة قطب" شقيقة سيد قطب، والداعية الإخوانية الشهيرة "زينب الغزالي"  إلى الاطلاع على المخطوطات الأولية لكتاب "معالم على الطريق" ثم انكشف أمر التنظيم وألقي القبض على بديع، وصدر ضده حكم بالسجن لمدة 15 عامًا.

داخل السجن، شاهد بديع بنفسه الحكايات التي يرويها الإخوان عن السجون الناصرية، وبدأت تتوثّق علاقته هو وباقي  مجموعة تنظيم 1965– محمود عزت وسيد نزيلي وغيرهم- بمجموعة النظام الخاص، وأبرزهم؛ مصطفى مشهور، المرشد الأسبق للجماعة، والحاج محمد الشناوي، الذي تزوج بديع ابنته فيما بعد.

خرج بديع من السجن عام 1974، بعد أن قضى 9 سنوات خلف القضبان، وبدأ يستكمل حياته العلمية، فحصل على ماجستير الطب البيطري جامعة الزقازيق عام 77، وأصبح مدرسًا مساعدًا بها، ثم تزوج لكن دوره داخل الجماعة كان قد تقلّص بشكل كبير أثناء فترة المرشد الثالث عمر التلمساني، فلم يُعرف له دور فى عملية التأسيس الثاني للجماعة والتي برز فيها دورعبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وحلمي الجزار وإبراهيم الزعفراني، وباقي رموز التيار الإصلاحي داخل الجماعة.

مصادر داخل الجماعة فسّرت غياب بديع عن التأسيس الثاني للإخوان بعدم رضاه عن طريقة أداء عمر التلمساني واقترابه من مصطفى مشهور الذى لم يكن على وفاقٍ مع التلمساني لأسباب تاريخية منها؛ أن التلمساني كان أحد أفراد اللجنة التي حاكمت مشهور وباقي أفراد النظام الخاص، وانتهت بإدانتهم. لكن بديع نفسه قبل تنصيبه مرشدًا بأيام نفى صحة هذه الرواية في لقاء نظمه شباب الجماعة عبر برنامج الدردشة الصوتية "البالتوك" وأكد أن علاقته بالتلمساني كانت طيبة، وأن انسحابه من الجماعة خلال هذه الفترة يرجع إلى ظروف سفره خارج البلاد.

سواء صحت هذه الرواية أو لم تصح، فإن الثابت هو أن بديع غادر مصر إلى اليمن في بداية الثمانينيات، حيث عمل في إحدى جامعاتها، وتم تدوين اسمه خلال هذه الفترة ضمن أهم 100 عالم عربي. هذا عن حياته العلمية خارج مصر، أما عن نشاطه التنظيمي فإن بعض الروايات تشير إلى أن بديع كان أحد مؤسسي ما عرف بتنظيم "العشرات" وهو تنظيم ضم عددًا من قيادات الإخوان بدأوا في تشكيل روابط تنظيمية في الدول العربية دون علم عمر التلمساني وكان أغلبهم من الذين صدرت ضدهم أحكام بالسجن تتجاوز الـ 10 سنوات، ولذلك سمي بتنظيم "العشرات".

لم يعد بديع إلى مصر إلا بعد وفاة عمر التلمساني، وكان المرشد فى هذا التوقيت هو محمد حامد أبو النصر ولظروف مرضه كان المرشد الفعلي للجماعة هو مصطفى مشهور.

عاد بديع  وتم نقل موقعه الإداري في الجماعة فجأة من محافظة الغربية إلى محافظة بني سويف ليحل محل الحاج حسن جودة المقرّب من عمر التلمساني، ورجحت بعض الروايات أنه تم نقله في إطار حملة شنها مشهور ضد رجال التلمساني داخل الجماعة، ثم تولى بديع بعد ذلك مسئولية محافظات الصعيد كلها. 

وفي التسعينيات عرف بديع طريق السجون مرة أخرى بعد اعتقاله فى قضية جمعية الدعوة الإسلامية ببني سويف لمدة 75 يومًا، ثم كان الاعتقال الأبرز عام 1999، في القضية العسكرية التى عرفت بتنظيم النقابيين برفقة مختار نوح، القيادي الإخواني السابق وصدر ضده حكم بالسجن لمدة 5 سنوات، واللافت للنظر أن بديع لا يزال حتى الآن تجمعه علاقة طيبة بمختار نوح وثروت الخرباوي اللذين انشقا على الجماعة خلال هذه الفترة لدرجة أن مختار نوح صدّر أحد كتبه بإهداء إلى محمد بديع قال فيه :"إني أحب هذا الرجل".

أما ثروت الخرباوي فقد روى أن بديع بذل محاولات لإبقائه داخل الجماعة من خلف أسوار السجن وطلب منه أكثر من مرة أن يتمهل في اتخاذ قرار الانفصال عن الجماعة حتى يخرج هو – أي بديع- من السجن ليصلح ذات البيْن، لكن السيف كان قد سبق العزل.

لم يعرف بديع بعد ذلك طريق السجن إلا عندما تم اعتقاله لعدة أسابيع قبل انتخابات المحليات العام قبل الماضي، وخلال السنوات الماضية تولى بديع عدة ملفات داخل الجماعة أغلبها يتعلق بالجانب التربوي حتى قفز إلى منصب المرشد العام قبل أيام بعد أزمة تنظيمية، هي الأعنف في تاريخ الجماعة الحديث.

المؤشرات الأولية  لطريقة إدارة بديع للجماعة خلال الفترة القادمة تؤكد عدة نقاط، أولاها: أنه يحاول الظهور في شخصية الداعي إلى  التصالح مع الخصوم، وهو ما ظهر في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تنصيبه مرشدًا عامًا، حين أكد أن الجماعة ليست في خصومة مع النظام في الوقت الذي كان يشن فيه المرشد السابق، محمد مهدي عاكف، هجومًا عنيفًا ضد النظام في خطاب الوداع. أما النقطة الثانية التي برزت من تصريحاته فهى؛ قابليته للاعتراف بالحقائق. فالرجل لم ينكر الأزمة التي تعرضت لها الجماعة مثل أغلب القيادات الإخوانية، واعترف بأن الجماعة مرت خلال الفترة الماضية بوعكة لكنها قادرة على التعافي منها، لكن الأخطر من كل ذلك هو؛ أن قدرته على التحكم فى شئون الجماعة بدت ضعيفة للغاية، فيما بدت السيطرة من محمود عزت واضحة لكل الإخوان، وهذا نفسه سر الهروب الكبير الذي أعلنه النائب الأول للمرشد محمد حبيب، فهو كما أسر لمقربين منه لم يستقل رفضًا لبديع، وإنما اعتراضًا على أن بديع لن يكون المرشد، وكما قال أحد القيادات الإخوانية الرافضة لحال الجماعة الآن، ربما يكتشف بديع بعد فترة أن بكاء السجن كان أهون، فعذابات السجن أقل كثيرًا من ويلات اتباع أهواء وأطماع محمود عزت، وعندما يكتشف بديع ذلك وقتها قد يصبح المرشد الباكي دائما على حاله.

font change