التصدي للتغير المناخي تحول إلي هوس سياسي لرؤساء الدول من أجل الحصول على لقب زعيم البيئة

التصدي للتغير المناخي تحول إلي هوس سياسي لرؤساء الدول من أجل الحصول على لقب زعيم البيئة

[escenic_image id="5512634"]

من بين موضوعات النقاش الرئيسية التي غابت عن مؤتمر كوبنهاجن لتغير المناخ قضية التعامل بفعالية مع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (الغازات الدفيئة). وهو ما يعد أمرًا خطيرًا إذا ما أخذنا في الحسبان التكاليف الكبيرة التي يمكن أن تسببها العديد من السياسات المتبعة من قبل المجتمع البيئي الدولي بالنسبة للدول النامية والمتقدمة.

وترتبط قضية تغير المناخ بشكل وثيق بالاقتصاد. فمن جهة، هناك من يرون أنه إذا لم تتم مواجهة هذه الظاهرة، فإن الاقتصاد سوف يتأثر على المدى الطويل. وسوف يجد الناس أنفسهم بدون موارد لإنتاج السلع وسوف تحدث أزمة في الغذاء ونقص في المياه، مما يؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي. ومن جهة أخرى، يرى فريق آخر أن التعامل مع هذه الظاهرة نفسها بمثابة إجراء مكلف؛ وتأثيراته لا جدال فيها. ومع ذلك، فقد اتضح خلال الأعوام القليلة الماضية،  أن هؤلاء الذين كانوا ينادون باتخاذ إجراء فوري كانوا على حق في موقفهم ..

ونتيجة لذلك، أصبحت ظاهرة الاحتباس الحراري والحاجة إلى التعامل معها تمثل أولويات على جدول أعمال القرن الحادي والعشرين. وهذا الإجماع بدوره يعزز هوسًا سياسيًا يتنافس في ظله الساسة على منصب الزعيم الأكثر وعيًا من الناحية البيئية والاجتماعية في العالم بأسره. ولكن هذا الإجماع يقف عند هذا الحد نتيجة للتضارب الناشئ بين المطالب والأفكار من جانب والسلوك الإستراتيجي الصناعي للمؤسسات من جانب آخر وهو ماجعل تصرفات الحكومات بلا فعالية،

ومن بين الأفكار التي تعزز هذا الارتباك فكرة أن الحكومات يتعين عليها دعم أو إعطاء تفضيلات تنظيمية لمنتجي الطاقة النظيفة لتهيئة الساحة التنافسية ولمواجهة تشبث الاقتصاد بمصادر الطاقة الحفرية الحالية. والمشكلة في هذا المنطق تتمثل في أنه لا أحد يعرف اليوم بشكل مؤكد ما الوسيلة المثلى لمواجهة الاحتباس الحراري. وبعبارة أخرى لا أحد يعرف الطريقة المثلى التي يتم بها تخصيص النسبة المضبوطة من الاستثمار لمجال الطاقة النظيفة والتخلص من الانبعاثات الكربونية والهندسة الحيوية، بل وحتى الطاقة النووية، ناهيك عما يصفه الاقتصاديون بالاعتقاد المنافي للعقل بأن دعم المجالات المتنافسة فكرة لا بأس بها؛ على اعتبار مواجهة تأثير دعم مجال معين على مجال آخر. 

وهذه المشكلات هي السبب الرئيسي وراء اعتبار تجارة خفض الانبعاثات الكربونية أفضل الخيارات المتاحة. والهدف من هذه الإستراتيجية هو التقليل بشكل دائم من ثاني أكسيد الكربون وغير ذلك من انبعاثات الغازات الدفيئة بطريقة غير باهظة التكاليف. وسوف يكون هناك حد لكل شركة كبرى تطلق هذه الغازات الدفيئة بحيث لا تتجاوز مقدارًا معينًا من تلك الغازات. وينبغي أن يكون لدى الشركة تصريح عن كل طن من ثاني أكسيد الكربون تطلقه. وتعتبر هذه التراخيص بمثابة حد إجباري على مقدار التلوث المسموح به. وبمرور الوقت، تصبح هذه القيود أكثر صرامة مما يقلل من نسبة التلوث.

والجانب التجاري في تجارة الانبعاثات الكربونية يقوم على أساس فكرة أنه سوف يكون من الأرخص على بعض الشركات تقليل انبعاثاتها تحت الحد المطلوب مقارنة بغيرها. وهذه الشركات الأكثر كفاءة سوف يُسمح لها ببيع تراخيصها. ومن ثم، فإن السوق يخلق نظامًا تحفيزيًا للشركات كي تقلل من انبعاثاتها من غاز ثاني أكسيد الكربون عن طريق مكافأة الدول، التي تقلل من التلوث، ماليًا، وزيادة التكلفة بالنسبة للشركات التي تزيد من التلوث.   

وعلى العكس من الدعم والتفضيلات التنظيمية، فإن الميزة الرئيسية في هذا الأسلوب تتمثل في أن تجارة خفض الانبعاثات الكربونية لن تؤثر على أسعار الأسهم في السوق ارتفاعًا أو انخفاضًا لصالح مصدر معين من الطاقة النظيفة، وإنما يستدخل هذا الأسلوب تكاليف انبعاثات الغازات الدفيئة ضمن سعر الطاقة ومن ثم يمنح منتجي الطاقة فرصة جيدة لإثبات أن مصدر الطاقة لديهم هو الأقل تكلفة. ومن المحتمل أن تكون هذه الطريقة هي الأسرع أثرًا من حيث خفض انبعاثات الغازات الدفيئة. ومن الناحية العملية، يتفق الكثير من المتخصصين على أن تطبيق هذه الإستراتيجية يحتاج إلى عام كي تظهر آثاره.

وقد تحقق بعض التقدم في هذا الصدد. فوفقًا للبنك الدولي ، شهدت تجارة خفض الانبعاثات الكربونية زيادة في السنوات الأخيرة. وتم تبادل 37 مليون طن متري من ثاني أكسيد الكربون من خلال مشروعات في 2005، بزيادة قدرها 240% مقارنة بعام 2004، الذي شهد نفسه زيادة نسبتها 41% مقارنة بعام 2003. وحسب تقديرات البنك الدولي، فإن حجم السوق الكربوني بلغ 11 مليار دولار أمريكي في عام 2005 و30 مليار دولار أمريكي في عام 2006 و64 مليار دولار أمريكي في عام 2007.

ومن بين أنظمة تجارة خفض الانبعاثات الكربونية معاهدة كيوتو التي أبرمت في عام 1997، وقد تم تفعيل هذه المعاهدة الدولية في عام 2005 وهي تلزم الدول المتقدمة بنظام تجارة خفض الانبعاثات بالنسبة لستة غازات دفيئة أساسية. ومن الممكن أيضًا بالنسبة للدول المتقدمة فيما يتصل بإستراتيجية تجارة خفض الانبعاثات أن ترعى المشروعات الكربونية التي تحقق انخفاضًا في انبعاثات الغازات الدفيئة في دول أخرى كطريقة لتحقيق صفقات الانبعاثات الكربونية. وتتيح المعاهدة هذا الأمر من خلال آلية التنمية النظيفة ومشروعات التنفيذ المشتركة كي توفر آليات مرنة لمساعدة الكيانات المنظمة على الالتزام بمعدلاتها من الانبعاثات.  

وتعد إستراتيجية تجارة خفض الانبعاثات الخاصة بالاتحاد الأوروبي مثالًا آخر مهمًا على نظام تجارة خفض الانبعاثات. فهي أكبر إستراتيجية دولية لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم. والبرنامج يعمل على خفض كمية ثاني أكسيد الكربون، التي يمكن أن تنبعث من المنشآت الكبيرة ويغطي ما يقرب من نصف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الخاصة بالاتحاد الأوروبي (46 ٪).

وتوضح هذه الأمثلة، أن خفض الانبعاثات و التجارة ليسا شيئين متنافرين لا يمكن أن يجتمعا في الواقع. ولكن هذا لا يعني أن تصميم وتنفيذ هذه المخططات في الوقت الحالي لا يحتاج إلى صقل وتحسين. حيث اختلفت النتائج التي حققتها آلية التنمية النظيفة التابعة للأمم المتحدة للبلدان النامية وبرنامج اقتصادات الدول التي تمر بمرحلة انتقالية. ففي بعض الحالات تنجح هذه البرامج في القيام باستثمارات حقيقية، لاسيما في مجال الحد من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن استخدام الطاقة. ولكنها من ناحية أخرى، لم تكن فعالة أو بالفعالية الكافية من حيث التكلفة كما كان يأمل الكثير من الناس. وعلى مستوى العالم يتعرض نظام تجارة خفض الانبعاثات إلى النقد لكونه بالغ التعقيد، مما قد يدفع المرء للتساؤل عما إذا كانت المشكلة لا تتعلق بعدم كفاءة التصميم بقدر تعلقها بالسياسة في حد ذاتها.

وعلى الرغم من أن هذه العيوب تتعلق بالمظهر وليس بالجوهر، فإنها تتضمن تهديدًا بخطر يلوح في الأفق وهو إلغاء المخططات والإستراتيجيات الخاصة بخفض الانبعاثات لصالح وضع السياسات البيئية والتخفيضات التطوعية الوطنية. والخطر وراء هذه السياسات يكمن في طبيعتها التي تقصر تنفيذها "عليها فقط". وتنشئ الحكومات في نهاية المطاف نظم دعم مكلفة بشكل كبير ومثبطات ضريبية تقوض القدرة التنافسية لبعض القطاعات الصناعية. وقد أنتج هذا الانخفاض في القدرة القطاعية التنافسية زيادة في الضغوط السياسية المحلية لتعويض التكاليف البيئية الإضافية من خلال زيادة قيمة التعريفات الجمركية الحدودية أو الحواجز التنظيمية من أجل عرقلة استيراد السلع القادمة من البلدان التي لا يطبق فيها هذا النظام.

وعلاوة على ذلك، يعلمنا التاريخ أن "الدعم المالي" المؤقت يتحول في كل الحالات تقريبًا، إلى سياسات صناعية على المدى البعيد. ولكن من الناحية النظرية ليس هناك فرق كبير بين تقديم الإعانات إلى الصناعة الخضراء اليوم والإعانات التي كانت تقدم إلى الصناعات الثقيلة في البلدان النامية في الفترة من الخمسينيات إلى الثمانينيات، والتي فشلت فشلًا ذريعًا. وبالنظر إلى الحاجة الملحة الآن لاتخاذ إجراءات سريعة، والتي عبر عنها  العديد من المدافعين عن البيئة في جميع أنحاء العالم، من العجب و التناقض أن ينادي الكثير منهم بتنفيذ سياسات، ثبت فشلها تاريخيًا من قبل، بدلًا من تنفيذ خطط شاملة وفعالة مثل تجارة خفض الانبعاثات.

ومن هذا المنطلق، أصبحت مخططات الإعانات والتنويعات المختلفة لضريبة الكربون تعرف باسم الحمائية الخضراء. لقد أصبحت الحمائية الخضراء بمثابة حصان طروادة الذي يستخدم لتمرير السياسات الشعبية والحمائية من أجل تحقيق مكاسب سياسية داخلية. ويشكل حصان طروادة هذا تهديدًا خطيرًا بالنسبة لواحدة من أعظم الإنجازات الاقتصادية للتعاون الدولي والمحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، وهي تحرير التجارة وتدفقات رءوس الأموال. ولن نستطيع أن نتصدى لتغيرات المناخ بشكل فعال إلا من خلال وضع خطط لتجارة خفض الانبعاثات في نفس الوقت الذي نترك فيه باب التنمية مفتوحًا للبلدان ذات الدخول المنخفضة.

font change