الدبلوماسية السورية وفن الخطوط المتوازية في السياسة الدولية !

الدبلوماسية السورية وفن الخطوط المتوازية في السياسة الدولية !


ليس من شك في أن سوريا برعت في إدارة أزمتها (المستحكمة) مع الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية التي وصفتها ضمن محور الشر، وسنت قانونا يعرف بقانون محاسبة سوريا ...


أما العلاقات مع (فرنسا – جاك شيراك) فقد وصلت الي طريق مسدود بعد أن هُدمت جسور الثقة التي كانت بين الدولتين (سوريا وفرنسا).بسبب اختلاف الرؤي بشأن لبنان، ولم يتورع الرئيس الأمريكي جورج بوش عن الاشارة في حديث لصحفية لو فيجارو الفرنسية في حينه – الي أن القرار 1009 الذي صدر عن مجلس الأمن ويقضي بخروج الجيش السوري من لبنان، هو اقتراح فرنسي محض، وأن الرئيس جاك شيراك حادثه عبر الهاتف لمدة ساعة كاملة وكاد يُمليه بنود هذا القرار..


وبدأ واضحاً أن سوريا وجدت نفسها في مأزق حقيقي بعد أن مارست الدول الكبري ضغوطاً أدت إلي عزلتها الي حد كبير، وعندما جاء نيكولا ساركوزي الي مقعد الرئاسة من قصر الأليزيه بدأ واضحاً أن العداء لسوريا كان ضمن الارث الذي تركه شيراك له، وكلنا يعلم أن آخر اجتماع أجراه شيراك قبيل أن يترك قصر الأليزيه مباشرة كان يجمع معه سعد الحريري، والرئيس ساركوزي.. وحينها تحدثت الأوساط السياسية الفرنسية أن شيراك ألف بين قلبي الحريري وساركوزي وجعلهما يتعاهدا أمامه ، وهو الشاهد الوحيد، علي ضرورة الإستمرار في الضغط علي سوريا.


كانت هذه مقدمة لابد منها للتأكيد  علي أن سوريا لم تجد الطريق مُمهداً لبناء الثقة مجدداً مع الغرب الذي بدا وكأنه يرفض الإنفتاح علي دمشق رغم نصيحة قدمتها عدد من التقارير الأمريكية وأهمها تقرير بيكر- هاملتون الذي رأي أنه ليس من الحكمة عزل سوريا أو عدم اشراكها عن عمد في كل ما يجرى ويُطرح من حلول في الشرق الأوسط .


والإنصاف يجب أن نذكر أن سوريا في ضوء تعقد علاقاتها مع عدد من الدول العربية ومنها مصر حيث الأجواء ليست علي مايرام – لم تجد أمامها سوى صدر ايران، فارتمت فيه وازدادت العلاقات حميمية نظراً للصلات القوية التي تربط بين القيادتين، ناهيك عن شعور سوريا وايران بأنهما في خندق واحد بأوامر غربية (امريكية)، وما اعتبار الدولتين إلا عضوين بارزين في محور الشر إلا اكبر دليل علي ذلك.أريد أن اقول انه كلما زادت العلاقات السورية- الغربية تباعداً كما تقاربت العلاقات السورية –الايرانية.


وفي كل الأحوال، ولعل هذا من براعة الدبلوماسية السورية،  لم تفقد سوريا الأمل في أن تُعيد قراءة الأحداث المتواترة إقليمياً ودولياً – لتنسج،  وهذا ما حدث فعلا لا قولا، علاقات جديدة مع امريكا وفرنسا تتأسس علي مبدأين هما: المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل "وكان أمراً غير مألوف أن نسمع برنار كوشيه وزير خارجية فرنسا يثني علي سوريا وقيادتها واعتدال مواقفها بعد أن كان يتهكم علي سياستها ويطالب بمزيد من التهميش لها... أما الرئيس ساركوزي، قلق كان برداً وسلاماً في علاقته بسوريا والرئيس بشار الأسد بعد ان كان لسانه كالسيف!


ويُعزي ذلك – بحق الي الدبلوماسية السورية التي استطاعت  ان تطفئ نيران العدواة التي كانت ألسنتها في كل مكان وتعيد فرنسا الي سابق عهدها داعماً أساسياً للموقف السوري.وليس خافياً اليوم أن العلاقات السورية – الفرنسية قد حققت قفزات في طريق التنسيق الثنائي، كشفت عنه الزيارات المتبادلة بين القيادتين السورية والفرنسية في الفترة القليلة الماضية.


وعلي نفسي المنوال نسجت الدبلوماسية السورية نجاحاً أخر مع الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً بعد مجئ باراك اوباما.. حيث انتهزت سوريا فرصة إعلان الرجل (القطيعة) مع سياسة سلفه، وتأكيده علي أنه علي استعداد أن يبدأ الملفات من الصفحة الجديدة وليس من حيث انتهى سابقه (جورج دبليو بوش).و ليس من قبيل المبالغة القول أن واشنطن و باريس كانتا تعلمان  أن الأمن و الاستقرار  في لبنان أو العراق لا يمكن أن يتحقق إلا عبر بوابة دمشق فضلا عن قدرة سوريا في التأثير علي قوي المقاومة مثل حزب الله و حماس .. و هو ما حدث بالفعل ، و ربما كان ذلك عربون صداقة جديدة بين العواصم الثلاث  ( دمشق و واشنطن و باريس )


صحيح أن أمريكا و فرنسا تضعان ضمن خطة التطبيع الجديدة مع سوريا أن يأتي  ذالك علي حساب العلاقات الأكثر من جيده بين دمشق و طهران .. لكن ما يحسب للدبلوماسية السورية أنها لم يغب هذا الرهان عن عقلها السياسي ، فانتهزت أكثر من فرصة لتؤكد أن اقترابها من الغرب لن يأتي علي أنقاض العلاقات السورية – الإيرانية .. وأن بشار الأسد لن يلبس ثوب الرئيس أنور السادات الذي يعتبرونه باع علاقاته الإقليمية و العربية من اجل السراب الأمريكي – علي حد تعبير السوريين – وقد يرجح هذا الموقف السوري إلي إدراك القيادة السورية أن العلاقات السورية – الأمريكية  لا يمكن أن تكون لبناً و عسلاً مصفى ما دامت هناك إسرائيل ، لكن الأهم أن سوريا أيقنت أن أمريكا و فرنسا في حاجة إليها ربما أكثر من حاجة سوريا إليهما .. و الشئ الأخر هو أن سوريا لا يمكن أن تضحي بإيران التي كانت من الدول القليلة جدا التي وقفت بجانبها عند اشتداد الحصار الأمريكي ، و ضراوة قانون محاسبة سوريا.


و لا بد أن نشير الي  انه في الوقت الذي كانت العلاقات بين سوريا و أمريكا وفرنسا ، تتسم بالسيولة ، و تبدد الغيوم ، أكملت دمشق باقي بنود اتفاقية الدفاع المشترك مع إيران خصوصاً بعد أن أثارت الوكالة الدولية للطاقة النووية مشكلة المفاعل النووي السوري المزعوم ، وهو الأمر الذي أكد للعقل السياسي السوري   أن السياسة الغربية تجاه سوريا لا تزال (مثقلة) بإرث عدواني قد يحتاج إلي وقت أطول لكي يزول .. ناهيك عن أن نظرة الغرب العدوانية لدمشق و طهران كانت دافعاٌ للتقريب بشكل حميم و دافئ بين الدولتين اللتين لم  يكد يمر شهر إلا وتكون هناك زيارات متبادلة علي مستوي القيادتين أو الوزراء .


باختصار : كل هذا يؤكد انه من الصعب الاعتقاد بأن القيادة السورية ستحذو حذو السادات خاصة و أنها قد عبرت عنق الزجاجة في علاقاتها العربية و الإقليمية  دون أن تخسر إيران أو أن تقدمها قرباناٌ للولايات المتحدة و أوربا .


و يرجع ذلك إلي قدرتها الفائقة -  كما ذكرت صحفية لوموند الفرنسية – علي رسم الخطوط المتوازية في السياستين  الإقليمية و الدولية .       


خبير في العلاقات السياسية الدولية


مؤسسة الأهرام – مصر

font change