فصل جديد في حياة الرئيس السوري السياسية

فصل جديد في حياة الرئيس السوري السياسية

[escenic_image id="5512341"]

توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط

لكي نفهم توازن القوى الجديد في الشرق الأوسط، يجب أن نتأمل كيفية استجابة القيادة المصرية للهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. يردد البعض رواية عن أن الرئيس المصري حسني مبارك، عندما كان يشاهد لقطات لبرجي مركز التجارة العالمي المحترقين، التفت إلى أحد مساعديه وتمتم قائلًا: "لقد سهلت مهمتي". وينطوي هذا التصريح على غريزة طبيعية تجاه كيفية سماح واشنطن له، بعد أن أزعجتها اتجاهات الإسلاميين المتطرفين، بحرية التصرف تجاه المتطرفين وبعض التيارات الإسلامية السياسية في الداخل كجزء من الرد الأمريكي القاسي.

هذه الرواية لم نعرف إذا كانت ملفقة أم غير ذلك، لكن في كل الأحوال لم ترد مثلها، عن رد فعل الرئيس السوري بشار الأسد في ذلك اليوم المشئوم. ولكن الفكرة القائلة بأن مهمته أصبحت أكثر صعوبة ربما لم تكن بعيدة عن تفكيره. كان الأسد أمضى خمسة عشر شهرًا فقط في منصب الرئاسة، ونظرًا للربط بين دمشق والجماعات الإسلامية المتطرفة، كان محقًا في افتراض أن اسمه كان ضمن قائمة أشخاص سوف يسعى البيت الأبيض إلى التخلص منهم.

وكما تبين، لاحقًا، كانت حرب أمريكا على الإرهاب مفيدة لكلا الرجلين -- ولو بطرق مختلفة ولأسباب مختلفة – فالأسد البالغ من العمر 44 عامًا ينظر إليه ـ الآن ـ على أنه أحد أهم الزعماء العرب ،ويعد، أكثر تأثيرًا في بعض النواحي من والده، حافظ الأسد، والذي خلَّف المنصب الرئاسي لابنه قبل وفاته في يونيو /حزيران 2000.

وفى حين كانت سوريا منبوذة دوليًا، من قبل، بسبب دورها المزعوم في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في عام 2005، أصبحت سوريا الآن قوة تفاوض رئيسية ويحتمل أن تفسخ تحالفها مع إيران – والتي تمثل تهديدًا لوجود الأنظمة العربية فضلًا عن إسرائيل – بجانب علاقتها مع الحركتين الإسلاميتين المتشددتين حماس وحزب الله. ولا يزال نفوذ سوريا قويًا في لبنان، والتي تعتبر إقطاعيتها التاريخية، رغم الانسحاب المذل لقواتها العسكرية من هناك تحت الضغط الدولي عقب اغتيال الحريري. وتتمتع سوريا أيضًا بنهضة اقتصادية لم تكسب الأسد فقط قدرًا من الشرعية في المنطقة، حيث تندر فيه مثل هذه العملة السياسية، ولكنها حررت دمشق أيضًا من أي حاجة ملحة لعقد صفقة سلام مع إسرائيل من أجل الرعاية الأمريكية التي ستتحقق على إثر ذلك.

 ويبدو أن الأسد نجح أيضًا في التقليل من العدد الكبير لمستشاري والده لصالح حفنة من الرجال انتقاهم بنفسه. ونجد أنه حتى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، والتي طردها والده حافظ الأسد من البلاد خلال الحرب الأهلية الدموية في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، أبدت رغبة أخيرًا في التقارب مع النظام بعد اختلافهم مع عبد الحليم خدام. وشكل خدام، نائب الرئيس السابق في سوريا، حزبًا سياسيًا في المنفى في عام 2006، بعد الانقلاب على أسرة الأسد.

ويقول مرهف جويجاتي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الإستراتيجية في واشنطن: "إنه أمر يسترعي الانتباه أن تفكر كيف وصل بشار الأسد إلى السلطة وهو شاب، وسرعان ما تعرض لضغوط هائلة من الغرب بشأن العراق، وهى ضغوط حتى والده لم يتعرض لها. ثم أصبح الآن بدون منافس، ويخطب الأمريكيون والأوربيون والعرب ود سوريا حاليًا".

"بشار" جديد أم قوة ناشئة عن عواقب غير مقصودة!

ويرجع السبب وراء خلاص بشار الأسد واستعادة سوريا لدورها كلاعب أساسي في الشرق الأوسط إلى تأثير تطورات لم يتم التخطيط لها. فقد عارض الأسد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وكان هذا بمثابة تحدٍ لأمريكا دفع المحافظين الجدد البارزين في الولايات المتحدة للضغط من أجل عزل دمشق، في أعقاب المناخ المسمم بعد انهيار بغداد. ولفترة من الوقت، بدا أن الأجواء مشحونة ضد بشار فعلًا، وخاصة بعد العمل بشكل وثيق وبناء مع عملاء وزارة الخزانة الأمريكية لمعرفة الطرق التي يتم من خلالها تمويل الإرهاب، وفقًا لمسئولين سوريين. وأدلى هؤلاء العملاء بشهادتهم في الكونجرس حول عرقلة دمشق للتحقيقات.

 غير أنه بحلول نهاية ذلك الصيف، عندما حولت حركة التمرد العراقية الأمة إلى حفرة ثعابين استنزفت القوات الأمريكية فضلًا عن العراقيين، كانت سوريا هي التي أمسكت بزمام الأمور. وتسلل الجهاديون الذين تاقوا للانضمام إلى المعركة عبر الحدود الطويلة وغير المؤمنة بين سوريا والعراق. ولم تساند دمشق هذا التسلل علنًا، ولكنها لم تفعل الكثير لتحبطه. وجاء انتخاب محمود أحمدي نجاد المتشدد رئيسًا لإيران في عام 2005، وهى الحليف الوثيق لسوريا في الربع الأخير من القرن، ليصور الأسد كشريك علماني منضبط نسبيًا لنظام متطرف يعتبره الكثيرون قريبًا من امتلاك سلاح نووي. وفي فبراير/شباط 2006، فازت حركة حماس في الانتخابات الوطنية في فلسطين، مما رفع أهميتها كلاعب في الصراع العربي الإسرائيلي وأعلى النفوذ السوري معها. وفي شهر أغسطس/آب من ذلك العام، انتصر حزب اللـه، على الأقل رمزيًا، في حرب شرسة استمرت شهرًا مع إسرائيل.

وفي غضون سنة بعد اغتيال رفيق الحريري، فرض الأسد نفسه كمتحكم في أمور خارجة عن سيطرة إسرائيل وحلفائها الغربيين، والأنظمة العربية ذات الميول الغربية. وحيث إن إسرائيل أزعجها تنامي قوة ونفوذ حماس، وبالرغم من الرفض المعلن من جانب الرئيس الأمريكي وقتها جورج دبليو بوش، شاركت إسرائيل في محادثات بوساطة تركيا مع سوريا في عام 2007. وبينما زاد الصراع الطائفي في العراق وكثف أحمدي نجاد من حدة تصريحاته المعادية لإسرائيل، هدأت الضغوط الغربية على سوريا للتعاون مع الأمم المتحدة خلال التحقيق في اغتيال الحريري. وبدأ الزعماء الأوروبيون يشقون طريقهم إلى باب الرئيس السوري بشار الأسد في قصره الرئاسي، على أمل اجتذاب دمشق بعيدًا عن طهران حتى بعدما أعلن الأسد عن صلابة التحالف السوري الإيراني.

ومنذ انتخاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في العام الماضي، والذي أكد على الحلول الدبلوماسية، بدلًا من الحلول العسكرية لمواجهة التحديات في الخارج، شارفت إعادة تأهيل سوريا على الاكتمال. وبعد أن استدعت الولايات المتحدة سفيرها من دمشق احتجاجًا على اغتيال الحريري، أبلغت واشنطن سوريا أخيرًا أنها ستعين بديلًا للسفير. وأصبح جورج ميتشل، مبعوث أوباما الخاص إلى الشرق الأوسط، زائرًا معتادًا لدمشق ضمن جولاته الدبلوماسية، وسرت أقاويل حول حدوث تبادلات بين الجيشين الأمريكي والسوري. وفي شهر مارس/ آزار، استضاف الملك عبد اللـه، الذي استشاط غضبًا من اغتيال الحريري، بشار الأسد بجانب قادة كل من مصر والكويت في نداء رفيع المستوى من أجل المصالحة.

شريك مرحب به

ومن خلال التقدير الحكيم والحظ المواتي، وطدت سوريا نفسها كطرف أساسي يلائم جميع الأغراض في مجموعة معقدة من القضايا التي تؤرق الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط -- وخاصة فيما يجب فعله تجاه إيران وكيفية إحلال سلام شامل في الشرق الأوسط. ونجد المقولة القديمة عن مصر وسوريا -- لا يمكن قيام حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا -- مرة أخرى في رواج.

ويقول آرون ديفيد ميلر، الباحث في السياسة العامة بمركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين والمستشار المحنك في المفاوضات بين العرب وإسرائيل في الإدارتين الجمهورية والديمقراطية: "إن الناحية الإيجابية للتواصل مع سوريا هي أنها لا تسعى لتحقيق السلام فقط من أجل السلام بينها وبين إسرائيل، فإيران تحتل موقعًا مركزيَّا في المسار السوري، لأن إيران تقع عند نقطة التقاء كل القضايا التي تهتم به الولايات المتحدة – والتي تتمثل في العراق وأفغانستان والانتشار النووي ولبنان وحتى فلسطين. إذن يقول المنطق: إنك يمكنك ربح الكثير من وراء معاهدة سلام بين إسرائيل وسوريا أكثر من أي وقت آخر.

لا يرى ميلر، على غرار معظم الخبراء في الشرق الأوسط، فرصة تذكر للتوصل إلى اتفاق سلام بين العرب والإسرائيليين في أي وقت قريب، كما أشار في حواره الذي أجرته معه أخيرًا مجلة" المجلة". وتم إغلاق قناة الاتصال الإسرائيلية-السورية بعد حصار الدولة اليهودية لقطاع غزة قبل عام. ولا يبدو الطرفان مستعدين لإعادة تفعيلها. وعلى عكس مصر والأردن، اللتين أبرمتا سلامًا مع إسرائيل، لأن الحرب الدائمة أصبحت مكلفة للغاية، تتمتع سوريا باقتصاد قوي، كما كانت عليه منذ عقود، فما بين عامي 2004 و2008، وفقًا لصندوق النقد الدولي، حققت القطاعات غير النفطية في الاقتصاد السوري نموًا بنسبة 42%، في حين انخفضت المبيعات المتعلقة بالنفط بشكل مطرد. ويرجع الاقتصاديون الفضل إلى الحكومة نتيجة لحملتها الطموح للتنويع والتي جمعت بين تحرير العملات وتخفيض التعريفة الجمركية والإصلاح الضريبي. وبينما كان الاقتصاد السوري معتمدًا على النقد بشكل حصري، تزخر سوريا اليوم ببنوك مملوكة للأجانب تقوم بالاستثمار وتعيد بشكل فعال تقديم الإقراض الخاص لاقتصاد شارف على الفناء في الماضي نتيجة لعقود من اشتراكية حزب البعث.

وفي حين لا يقف شخص محدد وراء استعادة سوريا لموقعها الجغرافي-السياسي -- ربما باستثناء جورج دبليو بوش – يعود الفضل في صحوة البلاد الاقتصادية إلى الرئيس السوري بشار الأسد إلى حد كبير. (إلا أنه في هذا المجال أيضًا لعبت إدارة بوش دورًا مهمًا. ففي عام 2007، فرضت هذه الإدارة قيودًا على الحسابات السورية الموجودة في الخارج، مما حض أصحاب تلك الحسابات على تحويل أموالهم إلى الوطن. وكانت النتيجة طفرة اقتصادية في أسعار الأصول تدفعها السيولة.) وبعد فترة وجيزة من توليه رئاسة البلاد، قام الأسد بجولة ذات مغزى في المعارض التجارية بدمشق والتي كانت خاملة من قبل، حيث أثار حماسة الموجودين بإشارات إلى عصر سوريا الذهبي كموطن الحبوب والتقنية خلال فترة الإمبراطوريات العربية القديمة. في البداية، رفض التجار المحليون وكذلك المستثمرون الأجانب مثل هذا الحديث واعتبروه لغوًا. إلا أنه في غضون سنوات قليلة، ألغت الحكومة، تدريجيًا، دعم أسعار السلع المستوردة، ورفعت الرقابة على رأس المال، ومررت قوانين مصرفية شاملة. وارتفعت عائدات التصدير، وكذلك الاستثمارات الأجنبية. وفي شهر مارس/آزار، فتحت بورصة دمشق للأوراق المالية أبوابها أمام الأعمال وتستعد البلاد للتوقيع على اتفاق تاريخي للتجارة مع الاتحاد الأوروبي.

ويقول جويجاتي "الإصلاح الاقتصادي لا رجعة فيه، وقد اعترف بشار بأن والده دمر البلاد تقريبًا، وأنه يريد لعملية التحديث أن تتم. ولكن لا تزال هناك مقاومة، بداية من البيروقراطية وتأتى الآن من رجال الصناعة، والذين يدركون أنهم لا يستطيعون التنافس مع الأوروبيين. ولهذا اضطر بشار للاحتفاظ بثقافة والده السياسية. فهو مجدد، وليس مصلحًا".

ويشبه بشار الأسد والده، إلى حد كبير،  في المجال السياسي، وأبدت الدولة فصلًا قصيرًا من التسامح الرسمي عقب تنصيب الرئيس بشار الأسد مما بعث الآمال بأن يطلق الزعيم الجديد سراح السجناء السياسيين وينهى الأحكام العرفية ويشجع حرية الصحافة. غير أن البعثيين المتشددين قاوموا ذلك، وما سموه "ربيع دمشق" انتهى على عجل.

ويعد التحرر السياسي فاكهة محرمة في سوريا، كما هو الحال في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فمن مراكش إلى دبي، اتبع الزعماء العرب، بقدر من النجاح، وسيلة للحفاظ على أنفسهم،  ويطلقون الحرية لأنفسهم على حساب حرية التعبير محاكين النظم الاستبدادية الآسيوية منذ عقود. وتتمتع سوريا بقدر من النهضة الفنية؛ ويزدهر مجتمعها الفني وتتحول أحياء دمشق وحلب القديمة إلى فنادق ومقاهٍ ومحلات تجارية. ولكن ثقافة البلاد السياسية تتخذ الشكل المحافظ أكثر من الحديث. وحتى قبل وفاة حافظ، أبرز المتنافسون عداءهم لوريثه.

وفي أكتوبر/تشرين أول عام 1999، داهمت القوات بقيادة بشار فيللا عمه رفعت في مدينة اللاذقية الساحلية في سوريا. وبالرغم من أن رفعت كان في لندن، حيث كان في المنفى بعد قيامه بمحاولة انقلاب فاشلة ضد شقيقه، سرت الشائعات أنه سوف يستغل أي فراغ في السلطة قد يتبع وفاة الرئيس. ويقول الدبلوماسيون: إن الغارة في اللاذقية في ذلك الوقت، أسفرت عن سقوط 30 قتيلًا وأشارت للمنافسين المحتملين إلى أن الرئيس المكلف لديه رغبة داخلية كافية للبقاء.

وبعد ما يقرب من عشر سنوات في السلطة، أحاط الأسد نفسه بزمرة من المستشارين الشباب والطموحين. ومن بين مساعدي الأسد الأكثر أهمية مناضلون مثله من أجل الإصلاح الاقتصادي، وأيضًا منافسون له مثل عبد اللـه الدردري، نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية، ووزير المالية محمد الحسين. ولا يحظى الدردري، خلاف حسين، بعضوية حزب البعث، وبالتالي يفتقر إلى ركيزة النفوذ، وتسبب في استياء شديد لدى عدد من البيروقراطيين المتزمتين والأوليجاركيين (القلة). ويعتبر بقاؤه في السلطة مؤشرًا على التزام الرئيس بإصلاحات السوق الحر بالرغم من المعارضة القوية. وفي تحرك فسره المراقبون لسوريا بأنه دليل على أن التحول في القيادة السورية قد اكتمل، قام الأسد في تموز/ يوليو بترقية صهره آصف شوكت وهو عسكري له وزنه وكان حليفًا مقربًا لحافظ الأسد ليشغل منصبًا بوزارة الدفاع ذا أهمية رمزية فقط.

وبعد ما يقرب من عشر سنوات من المناورات الجغرافية السياسية والمكائد السياسية المحدودة، يشعر بشار الأسد بالأمان في سلطته بشكل واضح ويثق في إدارته. غير أن الأمان في الشرق الأوسط شيء نسبي. ونظرًا لتزايد التوريث في السياسة العربية – سواء في سوريا أو غيرها من الجمهوريات العربية، فضلًا عن الممالك والإمارات – يتوقع بشار الأسد أن يحكم إلى أجل غير مسمى بلا شك. وهذا يعني فرصًا مستمرة لأن يشكل المستقبل وفق إرادته، وكذلك المزيد من التحديات لحكمه. وهذا واقع يلائم منطقة، تعد اللعبة الطويلة هي الوحيدة المتاحة، على الأقل في الوقت الراهن.

font change