ينصح دليل مكافحة التمرد البريطاني الجديد القوات البريطانية العاملة في أفغانستان بدفع مبالغ مالية لضمان سلامتهم. وتؤكد هذه الوثيقة أن المال يمكنه أن يكون أداة مهمة في إقناع الأفراد والجماعات بقبول سلطة الحكومة، طالما أنه يستخدم بحكمة. ويقول الدليل: إن المال يستطيع أيضًا أن يقوّض دعم المجتمع للمتمردين. والفكرة بسيطة تتلخص في أن حركة طالبان تدفع للمتمردين المحليين حوالي 15 دولارًا (7 جنيهات إسترليني) في اليوم الواحد. ورغم أن هذا المبلغ لا يبدو كبيرًا، فإن هذا الراتب الضئيل يعد خيارًا أكثر جاذبية من احتمال البطالة في بلاد تعاني الفقر وتمزقها سنوات من الحرب. ويقول الدليل إن الجنود البريطانيين إذا استطاعوا مضاهاة هذا العرض وقاموا بعرض العفو عن المتمردين، حينئذ سيهجر الأفغان التمرد حتمًا ويتوقفون عن إطلاق النار على القوات البريطانية.
وثمة شيء من المنطق في هذه المقولة. فمنذ أوائل عام 2007، أدرجت الحكومة العراقية، بمساعدة الولايات المتحدة، أكثر من 100 ألف شخص سني بين صفوفها. ويقول البعض إن الآلاف من هؤلاء السنة كانوا متمردين سابقين ثم وافقوا على إلقاء أسلحتهم مقابل مبالغ نقدية أو الحصول على وظائف عادية. وفي أفغانستان، يصبح هذا الاحتمال أكثر من مغرٍ حيث إن التكاليف المحلية هناك أقل بكثير مما كانت عليه في العراق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التحول في الولاءات العشائرية أمر ذائع في التاريخ الأفغاني، ويقول المنطق إن هذا الأمر يمنح بريطانيا فرصة مثالية لاستغلال جماعة ضد أخرى.
وهناك بعض السوابق داخل أفغانستان أيضًا. فرغم النفي الرسمي القوي داخل الدولة، أشيع أن إيطاليا نجحت في تقليص عدد قتلاها في حي "ساروبى" في كابول عن طريق دفع المال لحركة طالبان. كما أن شركات الأمن والنقل الخاصة تتبع هذه الإستراتيجية بدفع النقود للمتمردين الأفغان في مقابل الحصول على مرور آمن داخل البلاد. ويتفاوت سعر السلامة بشكل كبير ويتوقف على نوع المركبات، وعلى ما تحمله ومساراتها. وتكشف بعض الروايات أن المسلحين يطلبون أحيانًا أكثر من 800 دولار عن كل شاحنة. وبطبيعة الحال، طالما أن هناك احتمالات لهجوم جماعة لقافلة معادية، تبدو هذه الصفقة وكأنها تسير بشكل جيد حتى الآن. وتعد هذه الصفقات مهمة لجماعات المتمردين أيضا، حيث إنها تمدهم بمصدر مالي رئيسي لتمويل حربهم ضد نفس الجيوش التي يمنحونها العبور الآمن مقابل المال. ونجد التناقض أكثر إدهاشًا، حيث إن هذا الأسلوب يضمن بنجاح أن تظل طرق الإمدادات العسكرية مفتوحة أمام القوات الأجنبية.
وهذا الأسلوب ليس جديدًا . فخلال الحرب الباردة، أغدق الروس والأمريكيون على حد سواء الأموال على أفغانستان في محاولة يائسة لشراء الولاءات العشائرية وتشكيل السياسات المحلية لتتوافق مع مصالحها الإستراتيجية. وبعد انتهاء الحرب الباردة، استمر هذا المنهج حيث عرضوا على حركة طالبان ما يصل إلى 150 ألف دولار أمريكي عن كل صاروخ من حوالي 600 صاروخ ستينجر، متبقية كانت الولايات المتحدة قد وزعتها من قبل ثم فقدتها في أفغانستان.
وحاولت مبادرات دولية كثيرة أيضًا القضاء على محاصيل الخشخاش بمنح النقود لمنتجيه المحليين لتشجيعهم على زراعة محاصيل بديلة – وهى إستراتيجية أثبتت عدم واقعيتها وعدم فاعليتها، ولم تحقق سوى مكاسب مؤقتة. كما حاولت الشركات الخاصة أيضا شراء الولاءات المتجهة لحركة طالبان في الماضي، كما في حالة شركة "يونوكال" والتي وعدت طالبان بملايين الدولارات أملا في أن تستطيع المضي قُدما في واحد من مشاريعها والذي يقضى ببناء خط أنابيب من تركمانستان إلى باكستان .
وفي الآونة الأخيرة، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، وضع الرئيس أوباما تكاليف خطة لإعادة دمج حركة طالبان ضمن مبلغ 680 مليار دولار مخصصة للعمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان للسنة المالية 2010. ويتضمن هذا البرنامج فكرة استخدام "المال بوصفه سلاحًا"، ويهدف إلى دفع المال لمقاتلي طالبان المحليين مقابل وقف القتال. ولكن حتي الآن لم يتضح بعد مصير المبادرة الأخيرة لأوباما..
ونقول في اختصار، لا يشكل المال سوى حل مؤقت. فربما يستطيع المال شراء الأمن الحالي ويقلل من الخسائر البشرية الأمريكية والبريطانية، ولكن سيكون هذا الحل قصير الأجل دون شك.
وإذا توقعنا أن المتمردين منخفضي الكفاءة سوف يوقفون القتال من أجل المال، فهذا أمر واقعي فيما يخص أفغانستان. ولكن إذا توقعنا ألا يعود المتمردون إلى ساحة القتال أو دعم تنظيم القاعدة حين تغادر القوات الأجنبية أفغانستان فليس أمرًا واقعيًا. ويقاتل عشرات الأفغان فعلا من أجل المال، ويوجد بالفعل برنامج عفو لطالبان منخفض المستوى وسيئ التمويل في أفغانستان. ولكن هناك حالة منتشرة من انعدام الثقة في الحكومة المركزية ويعتبرها الشعب دمية أمريكية. وازداد هذا التصور رسوخا خلال الانتخابات الأخيرة التي كشفت عن خلل هائل.
كما تنعدم ثقة المتمردين أيضًا في مثل هذه المبادرات. وتم اعتقال متمردين سابقين مثل وكيل أحمد متوكل، وهو وزير خارجية طالبان السابق، وعبد الحق واسيج، وهو وزير استخبارات طالبان السابق، بجانب آخرين كثيرين، وأُرسلوا إلى قاعدتي باجرام وجوانتانامو بعد أن تراجعوا طواعية. وتعزز هذا الحذر القائم على التجربة نتيجة الاضطرابات الأخيرة التي سببها البرنامج الباكستاني الخاص بالعفو. وتزداد الأمور سوءًا حيث يواجه المنشقون المحتملون مضايقات وتهديدات على يد الموالين. ومن منظور غربي كذلك، تثير المناقشات التي جرت أخيرًا حول قضايا مثل ارتفاع تكاليف الحرب وعدم وجود معدات للقوات تساؤلات أيضا حول جدوى واستمرارية مشروع أمني تأسس على مبدأ المكافأة المالية.
على هذا النحو، يتطلب الدمج الفاعل والمستديم للمتمردين السابقين في الحياة السياسية نهجا أكثر تعقيدا من مجرد منح النقود. ولا تعتبر حركة طالبان متجانسة ومترابطة. وفي حين تمتلك الحركة قيادة مركزية، في مجلس "كويتا" للشورى، لا تزال الحركة تناضل من أجل توحيد عدد لا يحصى من الجماعات والفصائل والقبائل والفروع المنتشرة تحت إطار مظلة المتمردين. وإذا كان البريطانيون والأمريكيون يريدون من المتمردين أن يتوقفوا عن إطلاق النار على جنودهم وتوفير الحماية للمدنيين في أوطانهم، يصبح حينئذ التوصل إلى اتفاق مع كل من مجلس الشورى، فضلا عن الفصائل الأخرى، مثل شبكة حقاني، أمرا ضروريا. والأهم من ذلك، ليس من المحتمل شراء ولاء هذه المجموعات. وفي الشهر الماضي، أعرب نائب الأمير الملا أخوند، عن رد فعل طالبان تجاه هذه المبادرة المالية، مؤكدا أن مقاتلي طالبان ليسوا مرتزقة وأن هذا "السلاح القديم" سيبوء بالفشل ، تماما كما فشل من قبل.
إذن ما هو الحل؟ ربما تكون التنمية المحلية الفاعلة في شقيها الاقتصادي والاجتماعي، وليس النقود، هي الضمان الوحيد بعدم انضمام الأفراد إلى المتمردين لأسباب اقتصادية. ومع ذلك، سوف يكون هذا ممكنا فقط إذا تم تفكيك المتمردين بشكل فاعل أو إبرام اتفاق مع مجلس "كويتا" للشورى وغيرها من الجماعات المتمردة الرئيسية. وحيث إن الحكومتين البريطانية والأمريكية تسعيان بالفعل نحو انسحاب قواتهما، فمن الممكن التوصل إلى اتفاق يستطيع تقويض الدوافع غير الاقتصادية للانضمام إلى التمرد. في الواقع، ربما يكون هذا الاتفاق أيضا الضمان الوحيد بأن هذه الفصائل لن تواصل دعم تنظيم القاعدة بعد رحيل القوات.
وكما أوضح قرار المُلا عمر بحماية بن لادن في عام 2001، تعتبر العلاقة بين حركة طالبان وتنظيم القاعدة أكثر من مجرد علاقة مصلحة. ولا يمكن شراء التقاليد القبلية، والاعتقاد بوجوب الدفاع عن الإسلام سواء بالتهديدات أو بالمال. ويعد التنظيم ومستوى التطور التقني للهجمات التي تقوم بها شبكة حقاني انعكاسًا واضحًا أيضا لاستمرار التعاون مع تنظيم القاعدة. وبالإضافة إلى ذلك، تقوم شبكة حقاني بتوسيع مطرد لشبكتها الخاصة بالرعاية الاجتماعية وتوفير الخدمات في المناطق التي يقل فيها أو ينعدم نفوذ الحكومة المركزية الأفغانية. وعلى هذا النحو، تعزز شبكة حقاني نفوذها وسيطرتها ببطء على السكان المحليين. وإذا لم تتخذ تدابير ملموسة من أجل تحقيق مزيد من التنمية الاجتماعية والاقتصادية في أفغانستان، سوف يزداد تجنيد الشباب الأفغان عبر الاقتناع بالتمرد بدلا من مجرد دافع اقتصادي بحت. وفي هذه الحالة، سيكتشف الأمريكيون والبريطانيون مرة أخرى أن المال لن يشتري لهم الحب حتى وإن حدث ذلك بشكل مؤقت.