الاقتصاد السعودي والتعليم

الاقتصاد السعودي والتعليم

[escenic_image id="5510976"]

منذ افتتاح شركة أرامكو، وهي تعد رمزاً للتغيير والتقدم الاقتصادي في المملكة العربية السعودية. والاتفاقية السعودية الأمريكية التي أدت إلى تأسيسها في عام 1933 ، لم تتمخض فحسب عن أكبر مؤسسة نفط في العالم حالياً، ولكنها أيضاً بمثابة محرك للتغيير الاجتماعي والتنمية الاقتصادية في المملكة السعودية. فمثلاً في أعقاب الصدمة النفطية الأولى، قام ولي العهد آنذاك فيصل بتمويل مشروعات ملحة في البنية التحتية وبإنشاء المراكز الصناعية في ينبع وجبيل وذلك في فترة السبعينيات، من خلال الودائع النفطية للشركة بالبنوك الأمريكية. وكانت هذه نقطة البداية لتدفق رؤوس الأموال إلى المشروعات الاجتماعية والاقتصادية، مما عمل على إنعاش مجال التجارة والأعمال ووضع حجر الأساس لتنويع الاقتصاد السعودي. وحقيقة أن شركة أرامكو ومشروعاتها المفضلة لا تتبع دائماً نفس القواعد التي تتبعها المؤسسات السعودية الأخرى معناها أن الشركة حاضنة للتغيير في المملكة؛ وأنها بمثابة آلية للمحاولة والخطأ بالنسبة للتحول الاقتصادي والاجتماعي.

ولذلك كانت شركة أرامكو هي المرشح الأفضل لتحقيق حلم الملك عبد الله ليصير واقعاً. فهذا الحلم وهو جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا وُلد وتحقق ليكون بمثابة أحد المحركات الرئيسية لتحول الاقتصاد السعودي من اقتصاد يعتمد على النفط إلى اقتصاد يقوم على المعرفة. وأشاد العلماء ورجال الأعمال على مستوى العالم بهذا الصرح التعليمي الجديد، باعتباره أحد الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية البارزة في المنطقة خلال العام.

 وجامعة الملك عبد الله بالفعل إنجاز هائل. فبكل المقاييس، يجمع هذا الصرح التعليمي كل ما هو جديد ويجلب إلى المنطقة أفضل الممارسات في معظم جوانب التعليم العالي. والجامعة لم تطبق أفضل الأساليب في مجال الإدارة فحسب ولكنها أيضاً تستخدم أفضل الطرق في تصميم مناهجها الأكاديمية. وعلاوة على ذلك، فإنه بعكس الجامعة السعودية بصورتها المعهودة، فإن جامعة الملك عبد الله مستقلة عن وزارة التعليم العالي، وهذا معناه أن الإجراءات الإدارية والتعليمية والبحثية تم تصميمها بناءً على معايير علمية وليس اعتبارات سياسية. وهناك جانب أكثر رمزية للجامعة ينسجم مع فلسفة أرامكو وهو أن المحاضرات ستكون مشتركة. إن هذا بمثابة نهج تعليمي ديناميكي جديد في التعليم العالي بالمملكة حيث يقوم على أساس المساواة بين الجنسين.

 ومع ذلك فإن الآمال المعقودة على جامعة الملك عبد الله تتجاوز خصائصها الهيكلية بكثير. فبالإضافة إلى وقف يقدر بعشرة مليارات دولار أمريكي، لدى الجامعة شراكة مدتها خمس سنوات مع ثلاث جامعات أمريكية بارزة على المستوى العالمي. كذلك فإن شراكة الخمسة وعشرين مليون دولار أمريكي شملت مشاركة القسم الهندسي بجامعة بيركلي ومعهد ستانفورد للهندسة الحاسوبية والرياضية والمناهج الأكاديمية لجامعة تكساس. كما تشمل الاتفاقية أيضاً نصاً يقضي بأن يتم تبادل أعضاء هيئة التدريس وأن تتلقى كل من الجامعات المشاركة مبلغاً يقدر ب 5 ملايين دولار أمريكي لإجراء الأبحاث في جامعة الملك عبد الله.

وإذا كان هذا بالفعل يعد أمراً جديراً بالثناء للجامعات الفرنسية مثلاً، فإنه بالنسبة للنظام التعليمي السعودي، تعتبر جامعة الملك عبد الله بمثابة انطلاقة كبيرة. في الواقع، فإنه من الناحية الإستراتيجية، تعد مجالات البحث السعودي والتعليم والاقتصاد بوجه عام هي أولى المجالات التي تستفيد من التحايل على قرارات الوزارة التي منها قرار مارس/ آذار 2009 الذي يحظر بوضوح على مسئولي التعليم )بما فيهم الأكاديميين( أن يقوموا بأي نوع من التواصل  المباشر مع أطراف أجنبية أو أي صورة من صور التعاون مع البعثات الدبلوماسية أو المنظمات الدولية في المملكة.

وسوف يدعم جميع الاقتصاديين الواعين والمختصين بالتطوير وخبراء وضع السياسات تقدير الملك عبد الله للتعليم باعتباره أحد أركان الاقتصاد القوي والمجتمع السليم. ولدعم هذا الموقف، فإنهم على الأرجح سيشيرون إلى دور التعليم في النهضة الاقتصادية التي حققتها ألمانيا في القرن التاسع عشر؛ كما أنهم سيسلطون الضوء على إسهام التعليم في جعل كوريا الشمالية وهونج كونج وتايوان في طليعة الدول التي حققت معدلات هائلة في النمو الاقتصادي؛ وأخيراً سيقومون بلفت الأنظار إلى الجهود الجبارة التي تبذلها الصين في التعليم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة باعتباره المصدر الرئيسي لبزوغها الاقتصادي بسرعة البرق. ومن المتوقع أن تستفيد المملكة استفادة كبيرة من التوسعات التعليمية المماثلة إذا ما أخذنا في الاعتبار معدل البطالة المرتفع بين الشباب والذي يبلغ حوالي % 20 وقلة التنوع الاقتصادي.

ويمكن أن يسرع تضاعف المؤسسات التعليمية المشابهة لجامعة الملك عبد الله من خطى المملكة العربية السعودية ومنطقة الشرق الأوسط بأكملها نحو مزيد من التطوير. ويبدو أن الملك عبد الله يدرك تماماً هذه الحقيقة الهامة. فالمملكة بحاجة لأن تبدأ تحولها الاقتصادي، لا لأن احتياطي النفط لديها يتضاءل، ولكن لأن الاقتصاد المتنوع يكون أقل تأثراً بالصدمات الخارجية وأكثر قوة، والأهم من ذلك أن هذا التحول أكثر فعالية في رفع مستوى رفاهية مواطنيها. والتعليم الجيد هو المدخل الأساسي لتحقيق هذا التحول.

 وتلبي المؤسسات التعليمية المتميزة مثل جامعة الملك عبد الله متطلبات الاقتصاد المتنوع الأساسية من خلال إعداد متخصصين مؤهلين بشكل جيد والأهم من ذلك، أنهم يتمتعون بكفاءة وديناميكية، وهذا هو جوهر ما يطلق عليه الاقتصاديون رأس المال البشري.

 وعلى المستوى العملي، ينبغي أن تعمل المؤسسات التعليمية جنباً إلى جنب مع مجتمع الأعمال للإسهام في مواجهة مشكلاتها الواقعية. فجامعة الملك عبد الله مثلاً تتفاعل مع مجال الأعمال بطريقتين رئيسيتين من خلال التسهيلات الكبيرة التي تتيحها الجامعة في مجال البحث والتطوير ومن خلال تيسير الحصول على رأس المال. فالهدف الأول للجامعة يتمثل في احتضان مجال الأعمال من خلال مساعدة المؤسسات والشركات على تحويل المشروعات البحثية عالية التقنية إلى مشروعات تجارية قابلة للتطوير. وأما الهدف الثاني لبرنامج التعاون الصناعي التابع للجامعة فيتمثل في تقديم الشركات الناشئة إلى الشركات العالمية ومصادرها الأكثر تنوعاً من رأس المال.

ويتجاوز دور التعليم أيضاً قيمته الواضحة التي لا تخفى على أحد. فكما اقترح فريدريك أغسطس فون هايك الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد منذ نصف قرن، فإن المنافسة ليست أفضل وسيلة في نشر المعرفة فحسب، ولكنها أيضاً تمثل جوهر التقدم التكنولوجي والاقتصادي. وبذلك فإن العملية التعليمية ينبغي أن يتم تنفيذها في ظل ثقافة تشجع على المنافسة. وهذا ما تفعله جامعة الملك عبد الله؛ فتقييم المؤسسات التعليمية للأداء ينبغي أن يقوم على أساس الكفاءة وليس على أساس الارتباطات الشخصية أو الاعتبارات السياسية.

والمؤسسات التعليمية التي تراعي هذه الفلسفة تتمكن في نهاية المطاف من تخريج متخصصين مؤهلين بشكل متميز وأفراد أكثر ديناميكية وإبداع ولديهم القدرة والاستعداد للتكيف مع البيئة المتغيرة والمتطورة. وكما أشار هايك، فإنه في كثير من الأحيان لا يكون السبب في أي حالة من حالات الركود الاقتصادي أو الاجتماعي قلة المتخصصين الجامعيين المدربين، وإنما في عدم تخريج أعداد كافية من الأشخاص المتميزين ذوي الكفاءات العالية. ولا يمكن حل هذه المشكلة سوى من خلال غرس الأخلاقيات السليمة للعمل في نفوس الأفراد؛ وهذا النوع من أخلاقيات العمل يمكن أن يتم غرسه في ظل بيئة تنافسية يتم فيها مكافأة وتقدير المتميزين.

 والمؤسسات التعليمية المتميزة مثل جامعة الملك عبد الله تلعب دوراً لا غنى عنه في خلق اقتصاد ديناميكي متنوع. ومع ذلك، فإنها لا يمكن أن تحقق نتائج بشكل مستقل دون دعم. فأولاً، ينبغي أن يتواجد القطاع الأهلي والحكومي في بيئة تنافسية ومشجعة وأن يعملا في ظلها. وينبغي أن يتم تعيين أو استبعاد العاملين بناءً على معايير الكفاءة وليس على المعايير السياسية أو التعسفية. وثانياً، ينبغي أن تعمل جامعة الملك عبد الله في إطار تنافسي. فالجامعات والمؤسسات البحثية تكون في أفضل صورها عندما تكون هناك حوافز ومكافآت لتحسين جودة الأبحاث والتعليم.

 ومن المأمول أن تكون جامعة الملك عبد الله بذرة للعديد من الجامعات الأخرى التي تحذو حذوها. فتضاعف أعداد المؤسسات التعليمية الديناميكية ذات الكفاءة العالية والمؤسسات البحثية المتميزة لن تكون فقط مفيدة للمجتمع بأكمله ولكن هذه المؤسسات أيضاً سوف تكون سبيلاً للنمو والتطوير. وأيسر طريقة لتحقيق هذا الهدف فتح قطاع التعليم العالي السعودي للمنافسة. وهذا التوجه قد تم انتهاجه بالفعل في أرجاء المنطقة باستثناء المملكة. ففتح قطاع التعليم العالي أمام المنافسة الأجنبية لن يعزز فقط من توفير التعليم المتميز أمام قطاع عريض من الناس، ولكن سوف يخلق حوافز داخلية لدى كل جامعات المملكة العربية السعودية كي تسعى لتصبح في صدارة التطوير الإداري والأكاديمي.

 وجامعة الملك عبد الله تمتلك إمكانيات هائلة تمكنها من أن تصبح أحد الأركان الرئيسية في بناء اقتصاد جديد ومتنوع. ودور أرامكو في تحقيق هذا الهدف دور حيوي للغاية. وبالرغم من أن اعتبار التقاليد غاية في حد ذاتها يمكن أن يكون أمراً سيئاً بالنسبة للمجتمع والاقتصاد، فإن التاريخ يعلمنا أن إجراء الكثير جداً من التغيير بسرعة مبالغ فيها يمكن أن تكون له آثار عكسية. إذن أرامكو باحتضانها للتغيير يمكن أن تلعب دوراً حيوياً في تجنب ظهور «وجوه غاضبة » جديدة والتأكد من أن التغيير الاجتماعي يتم على مراحل بطريقة المحاولة والخطأ.

في هذا الصدد، ينبغي أن يسير التغيير جنباً إلى جنب مع التقاليد. لكن التقاليد من أجل التقاليد ينبغي أن تنحى جانباً متى تم تطوير طرق أكثر كفاءة وفعالية لبلوغ أهداف محددة مثل التنويع الاقتصادي والديناميكية. ومن ثم فإن التقاليد ينبغي ألا تقف حجر عثرة في طريق جامعة الملك عبد الله. وبذلك فإن المملكة يمكن أن تجني الكثير من المكاسب من نشر مؤسسات تعليمية تحذو حذو جامعة الملك عبد الله، لكن الحكومة ينبغي أن تعي جيداً حقيقة أن المؤسسات التعليمية ليست دواءً لكل داء ولا يمكن أن تحقق أهدافها بمعزل عن القطاعات الأخرى حكومية كانت أو أهلية.

font change