هل بناء حكومة ديمقراطية في العراق وأفغانستان حلم بعيد المنال؟

هل بناء حكومة ديمقراطية في العراق وأفغانستان حلم بعيد المنال؟

[escenic_image id="5510971"]

في كل من العراق وأفغانستان، يظل إجراء انتخابات حرة ونزيهة معيارًا حاسمًا من معايير النجاح بالنسبة للقوى الغربية من خلال تدخلها في كلا البلدين. وبناءً على ذلك، فإننا نجد الساسة في أمريكا الشمالية وغرب أوروبا  كل عدة سنوات يترقبون ما تتكشّف عنه الأحداث، بينما ترصد  وسائل الإعلام بعيون ثاقبة اثنتين من أكثر دول العالم هشاشة. 

وسوف يتكرر هذا الترقب كثيرًا حتى تتولى الحكم في بغداد وكابول إدارات مستقرة تمثل مجتمعات كلا البلدين؛ إن كان هذا ممكنًا من الأساس. وخلال الشهور والسنوات المقبلة، سوف تصبح مهمة تحقيق عملية ديمقراطية تتسم بالاستقرار والكفاءة الذاتية بمثابة تحدٍ جديد لصبر كل من القادة الغربيين وجماهير الناخبين في البلدين والذي بدأ ينفد بالفعل، كما أنها تضع صانعي السياسات أمام أزمات يصعب حلها إن لم تكن مستعصية؛ مما يؤدي إلى أخطاء كارثية في تقدير الموقف في أفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط.

والأحداث التي وقعت على مدار الشهور الماضية أضعفت بشكل كبير مشروع بناء الدولة في أفغانستان. فمساوئ الانتخابات الأفغانية والتراجع المذل للمرشح عبد اللـه عبد اللـه، وانتخاب كرزاي بالتزكية كل هذا قلل بشكل كبير من مصداقية إدارة كرزاي على المستوى المحلي والخارجي. والأسوأ من ذلك أن هذا التذبذب عزز صحة اعتقاد حركة طالبان وحلفائها أن الدولة التي يتم بناؤها في هذا البلد تتم إدارتها في الأساس عن طريق قوى غربية ولصالح تلك القوى. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تستمر الحكومة العراقية في مهامها القاصرة على "المنطقة الآمنة" في بغداد؛ في جميع الظروف والأحوال، حيث  تعد هذه المنطقة حصنًا أبديًّا ، مما يدل بوضوح على استمرارية اعتماد الحكومة  في بقائها على الدعم الغربي.

في ظل هذه الظروف، لا يحتاج الأمر من خصوم مشروعات بناء الدولة كي يتمكنوا من سحب الثقة من تلك الحكومات وإظهار عجزها وعجز حلفائها سوى تفجير عدد قليل من القنابل الموقوتة القوية في الأماكن الحيوية. فجانب كبير من شرعية أي حكومة يعتمد على قدرتها على تلبية أهم مطلب يشغل الناس وهو عنصر الأمن. فإذا غاب الأمن؛ بحيث أصبحت الحكومة عاجزة عن مواجهة أعدائها، فإن النظام يتعرض لمخاطر الانهيار. وأدرك هذه الحقيقة باكونين ولينين وكاسترو، كما أدركتها القاعدة وحركة طالبان. وكما أوضحت العمليات الهجومية في الأسابيع الأخيرة، يتصرف كلا التنظيمين وحلفائهما بناءً على معرفتهم بهذه الحقيقة.

والتركيز على العملية الانتخابية التي جرت على مدار الشهور القليلة الماضية ربما يؤدي إلى صرْف الانتباه عن قضايا أكثر أهمية بكثير بالنسبة للسكان المحليين؛ تلك القضايا التي تتعلق بأمنهم وحياتهم الاقتصادية. وعلاوة على ذلك، فإن الاعتقاد بأن الانتخابات التي يتم إجراؤها تهدف إلى تحقيق مصالح الشعبين ـ العراقي والأفغاني ـ بمثابة نصف الحقيقة (أو ربما ربع الحقيقة). والسؤال المهم الذي يطرحه المعلقون والمحللون في الغرب لا يتعلق بسخط أو رضا السكان المحليين وإنما القضية المحورية: هل الناخبون الغربيون سوف يوافقون على إرسال جنودهم للقتال – والموت – في سبيل أنظمة لا تتمتع بشرعية أو ديمقراطية؟

ولعل هذا يشير إلى مدى عجز الحكومات الغربية عن تبرير معاركها في تلك الأراضي الأجنبية، حيث باتت غير قادرة على إقناع العالم بالضرورة الإستراتيجية لخوض تلك المعارك لحماية أراضيها. في غضون ذلك، ارتفعت معايير النجاح – تأمين الحكومات الديمقراطية العاملة- بينما ظلت الوسائل المخصصة لتحقيق تلك الغايات محدودة مقارنة بالمهام المطلوب تنفيذها.

فلو أن هذه الحروب تم تعريفها بأنها تهدف إلى الإطاحة بصدام حسين وحركة طالبان وترك هذين البلدين آمنين بدرجة معقولة – وليس بالضرورة إرساء الديمقراطية فيها – لربما كانت هذه الأهداف أيسر نسبيًّا في بلوغها، ولكن توقع الغرب تحقيق معجزة بتأسيس حكومات ديمقراطية من الصفر، بينما ينبغي على طالبان والقاعدة انتظار الفرصة المواتية حيث يزداد انزعاج مجتمعات خصوم طالبان والقاعدة من الحرب وتتراكم إحباطاتهم نظرًا لعجز بلادهم عن إرساء دعائم الديمقراطية ومن ثم يطالبون بعودة قواتهم.

ومن الطبيعي أن يضع كل هذا الحكومات الغربية أمام سلسلة الأزمات شديدة التعقيد: فحتى ينجح بناء الدولة، تحتاج تلك الحكومات إلى موارد ضخمة قد يتعين إعادة تخصيصها من ميزانيات العجز في أوقات التعثر الاقتصادي. ومن الممكن أن تحتاج إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة وهو ما تعجز المؤسسات الهشة في تلك الدول الضعيفة عن تحقيقه لإعطاء الدوائر الانتخابية الغربية مبررًا للوجود العسكري. وحتى إذا أقر الناخبون الغربيون زيادة أعداد القوات، فإن صانعي القرار سوف يعانون الكثير من أجل التأكد من أن الأفغان والعراقيين لا يعتبرون زيادة أعداد قواتهم العسكرية تهديدًا لهم. وفي ذات الوقت، سوف يصبح الغرب بحاجة إلى قدر كبير من الوقت لبناء حكومات توفر الأمن لمواطنيها وقادرة على مواجهة العمليات التفجيرية التي يمكن أن تدمر في لمح البصر الثقة والأمن اللذين تم بناؤهما خلال شهور وسنوات من العمل الشاق.

ليس من الصعب أن ندرك الآن السبب وراء العناء الذي تلقاه إدارة أوباما في اتخاذ قرار بشأن زيادة أو عدم زيادة أعداد القوات في أفغانستان. فالأزمات والتعقيدات التي تم ذكرها أعلاه تجعل الجهود المبذولة لبناء الدولة بلا جدوى ومعقدة بدرجة تكفي لخلق ورطة يراها ساسة الغرب في كوابيسهم الانتخابية. في الواقع، ربما تتعذر في نهاية الأمر السيطرة على هذه الأزمات، مما يمكن أن يضعف الثقة بفكرة بناء الدولة من خلال التدخل المباشر كظاهرة للسياسة الدولية. 

وبينما كانت فكرة بناء الدولة من أبرز خصائص العلاقات الدولية بعد الحرب الباردة، فإن عددًا متزايدًا من الإخفاقات أضعف بالفعل من فاعليتها كنموذج عملي للتطوير الدولي. فعقب اتفاقية دايتون بخمس عشرة سنة، لا يزال الاستقرار المهدد في البوسنة يعتمد على الوجود العسكري المستمر للقوى الخارجية. وقد تحولت تجربة تيمور الشرقية لبناء دولة تحت رعاية الأمم المتحدة إلى إخفاق تام في نهاية الأمر، ولم يتم إنقاذها إلا من خلال التدخل الأسترالي من جديد. وإلى حد كبير، تعتبر التجارب الناجحة في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية استثنائية، وهي نتاج لظروف مواتية تهيأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة مع بداية الحرب الباردة.

ربما يؤدي الفشل في أفغانستان إلى جعل واضعي السياسة يستنتجون أن المجتمعات والحكومات بوجه عام معقدة للغاية، بحيث يتعذر التأثير عليها خلال فترة زمنية معقولة. وبالإضافة إلى التكاليف السياسية المحلية، يمكن أن يصبح الانسحاب والاحتواء بمثابة حلول عملية شبه مثالية لمشكلة معقدة؛ بعواقب كارثية تمامًا بالنسبة لتلك الدولتين اللتين كانتا هدفًا للمحاولات الفاشلة لبناء دولة في المقام الأول: أفغانستان والعراق.

وكما الحال الآن، فإن العواقب الوخيمة لهذا التحرك – فيما يتعلق بعدم الاستقرار في أفغانستان وتزايد النفوذ الإيراني في الخليج – لا تزال كافية بالنسبة للقوى الغربية لتظل متشبثة بهدف إرساء دعائم الديمقراطية في منطقة يصعب فيها تحقيق هذا الهدف. ومع ذلك فإن تحليل التكاليف/ المكاسب يرجح بقوة الانسحاب. لقد أصبح السؤال المطروح بقوة هو: متى سيتم هذا الانسحاب؟

font change