محاولة لغسل سمعة ايران في البيت الحرام

محاولة لغسل سمعة ايران في البيت الحرام

[escenic_image id="5510787"]

لقد كان عام 1987، إيذانًا بعهد جديد في تاريخ العلاقات السعودية – الإيرانية. ولكن الأهم من ذلك أن أحداث ذلك العام أثبتت أنه لا مجال للخلط بين السياسة والشعائر الدينية. فقد شهد ذلك العام تصاعد التوترات حينما أصرت طهران على أن حجيجها من حقهم بل وواجبهم أن يشاركوا في مظاهرات سياسية خلال رحلتهم إلى مكة. إلا أن الرياض عارضت ذلك بإصرار مؤكدة أن مثل هذا السلوك لا يليق بالمغزى الروحي للحج.

وقد انفتحت أبواب العداء المكبوت على مصاريعها عندما قامت قوات الأمن السعودية بمنع مظاهرة غير مصرح بها  أمام المسجد الحرام. وقد أسفرت هذه المواجهة عن مقتل ما يزيد على 400 حاجٍ، معظمهم من الإيرانيين. وكان رد فعل العامة في الشارع الإيراني أن قاموا بمحاصرة السفارة السعودية، مما أسفر عن مقتل دبلوماسي سعودي.

أمَّا عن اضطراب العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، فحدِّث ولا حرج. إذ بينما يعد نشوب خلافات بين هاتين القوتين المتنافستين أمرًا متوقعًا، إلا أن ما يدعو للأسف أن مصدر الاضطراب والخطر كان شعيرة دينية يُفترَض أنها  تعبر عن هوية مشتركة.

أشياء لا تتغير

يلتقي في مكة كل عام ثلاثة ملايين حاجٍ من جميع أنحاء العالم، حيث يطوفون حول الكعبة سبعة أشواط بعكس اتجاه عقارب الساعة كبادرة على وحدة الأمة الإسلامية. ولا يمكن تصوُّر الأعداد الهائلة من البشر في موسم الحج، ولكن ما يدعو للدهشة حقًّا هو إمكانية تأدية هذه الفريضة بهذه الأعداد دون حدوث اضطرابات، وهي إمكانية قد أصبحت أكثر تعقيدًا من جراء التوجهات الإيرانية النازعة إلى تسييس الحج.

لقد نتج عن الجدل الدائر حول ما إذا كان للسياسة مكان في الحج، تعكير صفو العلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، تخللتها فترة من الهدوء لم تتجاوز بضع سنوات. فلقد ألحقت أحداث 1987، ضررًا بالغًا بالعلاقات الدبلوماسية بين هاتين القوتين، رغم أن ثمة أحداثًا أخرى قد أضفت شيئًا من الدفء على هذه العلاقات خلال تلك الحقبة، وإن كان ذلك بدرجة محدودة. فمن ناحية، تسببت حرب الخليج في تغيير انطباعات السعوديين، وتم حل الجدال المتعلق بالحج من خلال تسوية مكَّنت الإيرانيين من المشاركة في موسم الحج عام 1991، لأول مرة بعد أربع سنوات.

ومع ذلك، فإن الجدال السعودي- الإيراني حول موقع السياسة من الحج يبدو أنه اشتعل من جديد، كما بدا واضحًا على نحو مطرد من خلال سلسلة من التفاعلات بين السعوديين والإيرانيين في أواخر أكتوبر. وقد طلب وزير الحج السعودي، فؤاد الفارسي، من إيران ألَّا تقوم بتسييس الحج بعد أن صرح القادة في طهران أن الإيرانيين قد يتعرضون لسوء المعاملة أثناء موسم الحج.

وقد حذر الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، والقائد الأعلى خامئني، من أن المملكة العربية السعودية، والتي تتمتع بأغلبية سنية ساحقة، قد تسيء معاملة بعثة الحج الشيعية القادمة من إيران. وقد أعلن كل منهما أن إيران سوف تقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة إذا ما فرضت السعودية قيودًا على الحجاج الإيرانيين. وصرح أحمدي نجاد كذلك بأن الحج هو فرصة عظيمة للدفاع عن القيم الإسلامية، وأنه عندما يلتقي المسلمون، ولا سيما مع الحجاج الإيرانيين، فسوف يحبطون أية مؤامرات يحيكها الأعداء مما يزيد من وحدة المسلمين.

ويخفي الخطاب الإيراني حول حقوق الحجاج أثناء موسم الحج رسالة واضحة فيما يتعلق بالنوايا الإيرانية. ولكن الإشكالية الأكثر استعصاء على الحل هي؛ أن إيران بصدد اختلاق خلافات سياسية في زيٍّ ديني أو طائفي. وهي وصفة يمكن أن تثبُت خطورتها الفادحة بالنسبة لمن سيقومون برحلة الحج هذا العام.

إن الجدل الدائر حول دور السياسة في الحج يومئ إلى  اتجاه أوسع داخل الإسلام، حيث يكشف عن وجود مضامين سياسية متنامية تكتنف كل الممارسات الإسلامية. وهذا يعني أن الحركات السياسية الإسلامية قد نجحت في تسييس الإسلام على مستوى جميع الأفراد، ابتداء من الحجاب إلى الحج، وهي حقيقة من شأنها أن تزج بالأحداث الدينية إلى دائرة الجدل السياسي الخاص بالمنطقة ككل.

إقحام السياسية

والسؤال الذي يطرحه هذا الجدل حول موقع السياسة من الحج هو: لماذا لم تحاول البلدان الأخرى أن تستغل هذه العبادة الدينية لنشر رسائلها السياسية؟ ففوق كل شيء، فإن إيران ليست البلد الوحيد الذي تتشابك فيه الحياة السياسية مع المؤسسة الدينية. بل على العكس من ذلك، تتأثر السياسة في كثير من أنحاء العالم العربي بالإسلام. والحج هو حدث له شأنه في العالم الإسلامي، والعدد الضخم من الحجاج من شأنه أن يجعل من الحج مناسبة للدعاية السياسية. لكن الحقيقة أنه حتى في خلال فترة الحرب الباردة، لم يُقحم عبد الناصر السياسة في هذا الحدث الديني المهم، بالرغم من خلافاته الحادة مع المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت. فلماذا إذًا تعد إيران هي الدولة الوحيدة التي تنتهج هذه السياسة؟

تأتي دعاوى إيران الجديدة لتسييس الحج في مرحلة معينة من المسيرة السياسية الخاصة بالحكومة الإيرانية، سواء على المستوى الوطني أو الدولي. فقد كان من أهم الأحداث التي أظهرت سياسة أحمدي نجاد بوضوح؛ انتخابات الصيف المثيرة للجدل والمفاوضات المتعلقة بنوايا إيران بشأن برنامجها النووي والتي تم الدخول فيها أخيرًا. و كلا الحدثين يشيران إلى تزايد عدم استقرار نظام حكمه. وهذه مشكلة كبيرة، خصوصًا بالنسبة لدولة تعتمد في تحديد هويتها السياسة الخارجية على فكرة تقديم نفسها في صورة الدولة المتمردة القوية، على المستوى السياسي والديني، والتي تلعب دور الضحية أيضا.

وبعبارة أخرى، كان جزءًا من إستراتيجية إيران السياسية في الماضي الاعتماد على هذا الاستشهاد التاريخي المرتبط بعقيدة الشيعة. وقد أخذت إيران هذه الصورة، وقلبتها رأسًا على عقب، مُحوِّلةً صورتها إلى صورة البلد الثوري القوي المناهض للغرب في الشرق الأوسط. مدعية بأنها نموذج للبلد الذي يحيي الإسلام.

وعلى هذا النحو، فإن الخلاف بين المملكة العربية السعودية وإيران هو أحد الأبعاد الدالة على مدى تأثير الصراع الطائفي على السياسة الخارجية في منطقة الخليج، ومدى تأثره بها من ناحية أخرى. وبمعنى آخر، فقد اتخذت الصحوة الإسلامية في العالم العربي أشكالا مختلفة في البلدان التي تهيمن عليها الطائفتان الرئيسيتان في الإسلام، وهما السنة والشيعة. بل إن هذا الخلاف هو أيضا دليل على مدى تأثر العلاقات بين البلدين بقوة ونفوذ الحركات المحافِظة في هذه البلاد، خاصة السلفية والإثنى عشرية. وبالتالي، فإن مسألة الحج تصبح مسألة شائكة بالنظر إلى الصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران من أجل الهيمنة السياسية والدينية على المنطقة.

وهذا الصراع، المتعدد الأوجه، من أجل السلطة يوضح السبب الذي يمكن أن يدفع  إيران إلى استغلال موسم  الحج هذا العام لتُشعل الجدل من جديد حول قضية تسييس الحج. فبعد تعاونها المحدود مع الغرب أصبحت موجة الغضب الإيرانية المعادية للغرب، والتي تدَّعِى بأن إيران من حقها الحصول على أسلحة نووية، محل تساؤل . فقد وضع هذا التعاون المصدر الرئيسي لنفوذ إيران في المنطقة موضع شك. وبالنسبة لإيران، فإن إمكانية تسييس أكثر من 150،000 من الحجيج وجعلهم يرددون شعار "الموت لأمريكا" ربما يساعدها على رأب الصدع الذي أصاب سُمعتها كدولة متمرده في الشهور الأخيرة.

ومن الواضح أن فرصة الدعاية السياسية خلال الحج هي فرصة لا ترغب إيران في تفويتها، بالرغم من أنه ينبغي عليها ألا تحاول أن تفعل ذلك. وفي حين أن إيران ليست هي البلد الأول، ومن المستبعد أن تكون البلد الأخير، الذي يستغل الدين لأغراض سياسية، فإن الأزمات الماضية التي حدثت أثناء الحج تشير إلى أن إقحام السياسة في الشعائر الدينية يمكن أن تكون له عواقب وخيمة، ليس فقط بالنسبة للعلاقات الدولية، ولكن أيضًا بالنسبة للأشخاص الذين يتم استغلالهم  من خلال الحدث الديني نفسه. وإذا ما قررت إيران أن تقوم بتسييس الحج هذا العام، فمما لا شك فيه أن فِعْلتها هذه ستكون بمثابة فتح صندوق "باندورا" في الخليج. وقد تترتب على هذا الأمر آثار كبيرة على العلاقات الطائفية والدولية المتوترة بالفعل.

بولا ميجا

font change