الفرصة السعودية و أزمة الاقتصاديات العتيقة

الفرصة السعودية و أزمة الاقتصاديات العتيقة


يُقدر أن تكون الخسائر الرأسمالية التي لحقت بأسواق دول الخليج مع بدْء اشتعال فتيل الأزمة المالية العالمية بنحو 480 مليار دولار أمريكي، أي ما تصل نسبته إلى 50 في المائة من القيمة الإجمالية لتلك الأسواق، وما يمثل أيضًا نحو 45 في المائة من الناتج الإجمالي لها! وقعت تلك الخسائر خلال فترة وجيزة لا تتجاوز خمسة أشهر فقط (أكتوبر 2008 – فبراير 2009)، ووفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي من المتوقع أن تنكمش الاقتصادات الخليجية خلال 2009 بنحو 220 مليار دولار أمريكي، من نحو 1.1 تريليون دولار في نهاية 2008 إلى نحو 856 مليار دولار بنهاية 2009. من المؤكد أن وقْع الخسائر التي لحقت بمجمل أسواق المال العالمية لنفس الفترة جرّاء الأزمة كان فادحًا جدًا تجاوز 20 تريليون دولار! أدخلت معه مستقبل الاقتصادات والأسواق العالمية نفقًا مظلمًا ومرعبًا، هوتْ في فوهته المستعرة كبار المؤسسات المالية إفلاسًا، وأوصدت على إثره بوابات الائتمان البنكية، وزادتْ معه معدلات البطالة والعجز المالي والفوضى العارمة في أسواق الصرف والمبادلات التجارية، بصورةٍ أعادت العالم بأسره إلى فترة الكساد الكبير في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي.


أمام هذا المشهد الدراماتيكي تحركتْ قيادات الاقتصادات الرئيسة والهيئات الدولية نحو تشخيص الكارثة المالية، والمبادرة العاجلة باتخاذ أسرع تدابير إنقاذ ما يمكن إنقاذه (أو ما يجب إنقاذه)، كانت الوسيلة الأكثر اعتمادًا حينها هي؛ الاعتماد الأكبر على سياسات التحفيز المالي غير المسبوقة، والتي أوْكلت مهام تنفيذها للجهات القائمة على السياسات المالية في مختلف الاقتصادات، ثم بالدرجة الثانية الاعتماد على أدوات السياسة النقدية عبر تخفيض كُلفة التمويل، إضافةً إلى مجموعة إجراءاتٍ انصبَّ جلّ اهتمامها على سياسات وإجراءات إصلاح الأنظمة المالية والمصرفية والاستثمارية، التي تفجّرت الأزمة من أروقتها المكتظة بالاختلالات والتجاوزات الخطيرة، وزاد من تأثيراتها السلبية أنها تمت بوجود الأجهزة الإشرافية والرقابية. وُصِفتْ حزمة الحلول تلك لجرأتها على أنها القفزة الأكبر فوق جدران الرأسمالية في معاقل الرأسمالية!


ماذا جرى في منطقة الخليج قبل وأثناء وبعد الأزمة؟ ولماذا تفاقمت الأوضاع بتلك الصورة المؤلمة في مقدمة المقال؟ لا بد من القول إن اهتمام البنوك المركزية قد انصبَّ طوال العامين (2007،2008) على مواجهة شبح التضخم الذي فاجأ اقتصاداتها الناشئة بُعيْد انهيارات أسواقها المالية مع مطلع 2006، ورغم اعتراف البنوك المركزية الخليجية بخروج تلك المعضلة عن سيطرتها كونها جاءت من خارج اقتصادات المنطقة، فإنها في ذات الوقت اعتقدت أنها عن طريق رفع كلفة التمويل، وتضييق الخناق على البنوك التجارية في هذا الاتجاه عبر رفع معدلات الاحتياطيات النظامية على الإيداعات فيها، قد تنجح في كبْح جماح هذا الشبح المزعج "التضخم"! إلا أنه وقياسًا على الضيق الشديد أمام تلك الأدوات لارتباطها مع الدولار، فقد كان الفشل حليف تلك السياسات، ليواصل "التضخم" زحْفه المتصاعد، مع استمرار التراجعات الحادة في أسواقها المالية الهشة والضعيفة الكفاءة؛ كشفتها صراحةً الأيام الأولى من الأزمة المالية، لذا رأينا انهيار أسواقها المالية بضِعْف ما شهدته الأسواق المالية العالمية منشأ الأزمة في الأصل.


لقد عانتْ اقتصادات الخليج من تحديات جسيمة بصورةٍ متباينة نوعًا ما؛ ففي الإمارات كان التحدي الأبرز؛ ارتفاع حجم المديونيات على القطاع الخاص بدأت تتفاقم أوضاعها مع حالات التعثر عن السداد، وزاد من وقْع الأزمة هناك الهروب الكبير للأموال الأجنبية من بورصتيها لتفقد 127 مليار دولار. وفي السعودية تراجعت السوق بنحو 52 في المائة لتخسر 234 مليار دولار. وزاد من تعقّد الأوضاع توقف البنوك عن التمويل، رغم عدم وجود أية مشاكل سيولة (تجاوز متوسط فوائض إيداعاتها اليومية لدى ساما 91 مليار ريال)، ورغم التخفيضات المتلاحقة التي قامت بها ساما على معدلات الإقراض العكسي لتحفيز البنوك على الإقراض (وصلتْ إلى ستة تخفيضات على معدلات إعادة الشراء والمعاكس خلال أقل من نصف عام)، فإن ذلك لم يقنع خزائن البنوك، بل تحركت السيولة إلى الخارج بما فاق في الصافي 100 مليار ريال!


رغم قسوة الأزمة، ورغم فشل السياسات النقدية، تمكنت الاقتصادات الخليجية بفضل احتياطياتها المالية الضخمة في الخارج من تلبية أغلب احتياجاتها المحلية من السيولة، بل لقد لجأت بعض الدول الخليجية باستثناء السعودية وقطر لإصدار سندات سيادية لتمويل تلك الاحتياجات. إجمالاً، ستتمكن تلك الدول من اجتياز تداعيات الأزمة خاصةً السعودية وقطر الأسرع قبل غيرها، لما تمتلكانه من احتياطيات ضخمة أولاً، وللفرص الاستثمارية الواعدة فيهما خاصةً السعودية، على أن قطر مرشحة لاحتلال سلم النمو عالميًا لخمس عشرة سنة مقبلة (يتوقع IMF أن يتضاعف الاقتصاد القطري مرتين بحلول 2014). ما يجب إدراكه من قِبل واضعي الخطط والسياسات الاقتصادية في الخليج، خاصةً وأنها تتجه لتوحيد عُملتها؛ أن وجه الاقتصاد العالمي مرَّ ويمر بواحدةٍ من أكبر علميات التحول الجذري، لعل من أبرز سماته القادمة؛ تقدّم مجموعة من الاقتصادات الناشئة إلى مزيدٍ من التأثير على الاقتصاد العالمي (كالصين، الهند، البرازيل، روسيا، وكوريا الجنوبية)، وذلك على حساب الاقتصادات العتيقة كالولايات المتحدة ومجموعة اليورو.


وهذا يقتضي بدوره رسمًا جديدًا ومختلفًا تمامًا من الجذور لتلك السياسات والبرامج يأخذ بعين الاعتبار تلك التحولات العميقة عالميًّا، الإشارة الأهم في ضوضاء الأزمة المالية الراهنة التي يجب استقبالها جيدًا وبذكاء؛ أن الاقتصاد العالمي الذي ساد قبل 2008، قد تهاوى تمامًا، وأن العالم المعاصر اليوم يتهيأ للتأقلم اقتصاديًا وماليًا وما يستتبعه من تغيرات ستحدث في بقية مجالاته الحيوية لمرحلة جديدة تمامًا على جميع المستويات، تُرى هل نلتقط تلك الإشارة مبكرًا أم ستُسمعنا نفسها متأخرةً بعد فوات الأوان؟




عبد الحميد العمري
– عضو جمعية الاقتصاد السعودية

font change