لماذا "المقيل" أكثر من عادة سيئة؟

لماذا "المقيل" أكثر من عادة سيئة؟

[escenic_image id="557858"]

منذ عدة سنوات، قُتل طفل يمني يبلغ من العمر 12 عامًا بعد أن دهسته سيارة بغير عمد كان يقودها السفير الألماني الأسبق في اليمن عندما كان يتجول في الريف. ربما يخطر بالبال أن موقفًا كهذا يمكن أن تكون له تداعيات خطيرة تشمل على الأقل الملاحقة القضائية للجاني إن لم تُبذل محاولات من أجل تصفية المسألة عن طريق العنف. ومع ذلك فإن السفير الألماني بذكائه وحنكته لجأ إلى حل المشكلة على الطريقة اليمنية. فقد رتب لعقد لقاء مع أسرة الطفل المتوفى من أجل تسوية الأمر.

واصطحب السفير الألماني معه شاحنة محملة بالقات كإشارة اعتذارية، وجلس مع أسرة الصبي لساعات قلائل وأعلن استعداده لقبول أي قرار تتخذه الأسرة ضده. ونظرًا لاحترامه للتقاليد اليمنية، عفا عنه والد الصبي ولم تكن هناك مدعاة للثأر. فمن خلال معرفة السفير الألماني للدور المهم الذي يلعبه القات كركيزة أساسية في المجتمع اليمني، توصل إلى الحل الأمثل للخروج من هذا المأزق.

يتم جمع القات من أعالي أشجار القات، ويُقال إن هذا النبات يحفِّز نشاط المخ نتيجة لعدد من المركبات التي يحويها. وهذا النبات مشروع من قبل الحكومة اليمنية، في حين تصنفه منظمة الصحة العالمية في مجموعة خاصة منفردة كنبات مخدر. ويتغلغل القات في جميع الطبقات الاجتماعية للمجتمع اليمني ويسبب مشكلات اجتماعية عديدة باعتبار أن 90% من الرجال يمضغونه مقابل 50% من النساء، ناهيك عن انتشاره مؤخرًا بين الأطفال. ومع ذلك، لا يعتبر القات مجرد تقليد أو عادة يمنية فحسب، حيث إن تأثيره الاقتصادي على الأقل بنفس قوة تأثيره الاجتماعي.

ويعاني اليمن من الفقر وانعدام الأمن الغذائي ومعدلات البطالة المرتفعة، وهو يقبع في مرتبة الدولة الأقل نموًا في منطقة الشرق الأوسط. ويعتمد هذا البلد على الزراعة باعتبارها العامل الوحيد والأكثر أهمية في الاقتصاد القومي حيث يمثل حوالي 17,6% من إجمالي الناتج المحلي. ويُعتقد أن تكون إمكانية تحقيق التنمية الزراعية والاقتصادية أكثر احتمالية في شبه الجزيرة العربية بالرغم من أن نسبة 3% فقط من الأرض اليمنية تصلح للزراعة. ومع ذلك فإن طرق الزراعة التقليدية تعوق هذه الإمكانية بشدة، والأهم من ذلك التوسع في زراعة القات.

في هذا البلد الذي يعتمد على الزراعة، يلعب القات دورًا هائلاً في تخصيص الموارد والإنتاج الزراعي والتجارة، بل إنه يؤدي إلى تذبذب الواردات والصادرات الزراعية من عام لآخر. فلو تخيلنا أن الزراعة اليمنية على شكل ساعة، لكان القات العقرب الرئيسي الذي يحرك العقارب الأخرى أو يعوقها.

وتمثل الزراعة مصدرًا للمعيشة لحوالي 54% من إجمالي قوة العمل اليمنية، و74% من الريفيين، ومن ثم فهي شريان الحياة لقطاع كبير من السكان اليمنيين والاقتصاد ككل. ووفقًا للتقديرات، يمثل هذا النبات الخبيث أكثر من 40% من الزراعة اليمنية، ومن ثم فإنه يعتبر بمثابة المحصول الزراعي الأول في هذا البلد، بل إنه قد حل محل البن الذي كان في وقت من الأوقات المحصول اليمني الرئيسي في جلب النقد.

وعلاوة على ذلك، فإن نسبة العمالة التي تعتمد على زراعة القات مذهلة، حيث تبلغ 25%. لقد أصبح القات أكبر محصول نقدي مربح في اليمن خلال العقد الماضي، مما دفع المزارعين إلى زراعته بدلاً من زراعة المحاصيل المنافسة؛ وهي البن والكروم. ووفقًا للمزارعين، تمثل أرباح القات خمسة أضعاف أرباح الكروم و20 ضعفًا من أرباح البطاطس. حيث إن نبات القات ينتج أوراقًا على مدار العام ويزداد عليه الطلب دائما. ونتيجة لذلك، يشغل القات الذي يمثل المحصول النقدي الرئيسي في اليمن أكثر من 145 ألف هكتار من الأرض، ويمثل نسبة مذهلة من إجمالي الناتج القومي تبلغ 9%.

وبناء على الإحصائيات السابقة، وعلى اعتبار أن القات لا يعدو كونه عقارا غير قابل للتصدير، يتم النظر إلى زراعة القات وإنتاجه على أنه عامل رئيسي في خلق تصدعات تعوق التقدم في اقتصاد  هو  بالفعل يزحف نحو النمو بخطى وئيدة.  ويقدر أن زراعة القات تنمو بنسبة 12% سنويا، حيث يستنزف القات المزيد من الأراضي الخصبة ويؤدي إلى تناقص الزراعات في المحاصيل الغذائية الضرورية. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، كان ثمة فجوة تتراوح بين 75-92 % بين استهلاك القمح وإنتاجه. وحسب الدكتور إسماعيل محرم، مدير الهيئة العامة للأبحاث الزراعية، فإن اليمن يمكن أن ينتج ما يزيد على إنتاجه الحالي من القمح مائة مرة إذا ما تم تطبيق الطرق المناسبة للحد من إنتاج القات. ووفقا لذلك، فإن واردات القمح قد تضاعفت منذ عام 2004، بينما يغطي الإنتاج المحلي من الحبوب حوالي 8% فقط من احتياجات السوق المحلية. كما سجلت الخضروات معدلا سنويا غير ملائم من الإنتاج المحلي بالرغم من الزيادة الطفيفة في الإنتاج.

وتعتمد الزراعة اليمنية بشكل مكثف على المياه الجوفية، حيث تشكل هذه المياه ما نسبته 90 % من عملية الري. وهنا تظهر مشكلة أخرى خطيرة تتسبب فيها زراعة القات، إذ يستهلك القات وحده 30% من المياه الجوفية في اليمن، نتيجة اتباع المزارعين طرقا تقليدية في الري، مما يشكل تهديدا للموارد المائية للدولة. ومن المتوقع أن ينضب حوض صنعاء بحلول عام 2025 ،إذا لم يتم اتخاذ إجراء سريع نظرا لأن النطاق المائي يشهد انخفاضا بنسبة تصل إلى ستة أمتار سنويا في بعض المناطق. وقد أدى هذا إلى تصنيف معدل استهلاك الفرد للمياه في اليمن بين أقل المعدلات في العالم. كما أن الانخفاض الحاد في الموارد المائية لا يعطي مساحة للنمو الزراعي، بالنظر إلى أن استخراج المياه يزداد صعوبة باطراد في وقت النهار.

إن الاعتماد على المياه الجوفية وكذلك استنزاف الموارد المائية يلقيان الضوء على قضية أخرى رئيسية، وهي وقود الديزل المدعوم من الدولة. حيث إن عملية استخراج المياه تتطلب مضخات أرضية تعمل بالديزل من أجل ضخ المياه إلى السطح. وهكذا فمن ناحية تؤدي عمليات دعم الديزل إلى خفض تكلفة زراعة القات وتخفيض أسعار السوق، إلا أنها من ناحية أخرى تعد بمثابة إهدار للموارد المالية المحدودة للدولة. ونظرا لأن الدعوم المقدمة للديزل قد أصبحت تمثل طريقة غير مباشرة لدعم القات، يجمع معظم الوزراء في الحكومة على أن رفع الدعم عن الديزل سيكون الطريقة الأكثر كفاءة في كبح إنتاج القات.

وبالإضافة إلى إعاقته للإنتاجية الاقتصادية واستنزافه للموارد المائية، يعد القات أيضا سببا مباشرا وراء الانخفاض الهائل في إنتاجية العمل في اليمن. وتقدر الإحصاءات أن حوالي 22 مليون ساعة عمل تضيع يوميا في استهلاك القات. ويتقلص أيضا الدخل المتاح لتلبية الاحتياجات المنزلية نتيجة الإنفاق اليومي على القات والذي يتراوح بين 300 إلى 5000 ريال يمني. ويزيد هذا بالطبع من تفاقم حالة انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية التي يواجهها الشعب، حيث ينفق المال على القات بدلا من الغذاء والذي يشهد بالفعل ارتفاعا في أسعاره.

وقد أشار جولي فيلوريا ويليامز، خبير البنك الدولي في التنمية الإقليمية، إلى أن: "استخدام القات في اليمن بمثابة طارئ قومي". ففي هذا البلد الذي ضربه الفقر، هناك حقيقة مقلقة يمكن أن تعصف بإمكانية تحقيق التنمية في اليمن وهي؛ أن متوسط ما ينفقه ماضغ القات يصل إلى 600 ريال يمني (3 دولارات تقريبًا) في اليوم بالإضافة إلى المشروبات والسجائر.

وتواجه اليمن حاليًا مشكلات خطيرة في عملية التنمية تنعكس على مؤشراتها الاقتصادية. فمثلاً نسبة التعليم في اليمن 54% فقط ويعيش 15% تقريبًا من السكان بأقل من 1 دولار يوميًا ومع ذلك تنفق الأسرة العادية في اليمن 3 دولارات يوميًا في المتوسط على القات. ولقد أصبحت المشكلة التي يسببها القات واضحة في الوقت الحالي. وفي فترة السبعينيات، طالب رئيس الوزراء الأسبق محسن العيني بإصدار قرارات باستئصال أشجار القات. لكنه ولسوء طالع اليمن، لم يكن الشعب على استعداد لدعم هذه المعايير، ولم يبذل الكثير من أجل تغيير الوضع الراهن.

لقد خلق إنتاج القات اهتزازا في الاقتصاد اليمني، مما أثر على الإنتاج الزراعي وتقلبات الصادرات والواردات، والاقتصاديات المنزلية، وحتى الدعم الحكومي والصحة العامة. ويأتي على قمة كل هذا الخطر المحدق الذي تشكله ندرة المياه في القطاع الزراعي ككل.

وسواء كان الحل للسيطرة على القات هو  فرض الضرائب، أو إلغاء الدعوم  على وقود الديزل، أو زراعة محاصيل عالية الدخل بدلا من ذلك، يجب على الحكومة أن تتغلب على الضغوط الاجتماعية والسياسية للسيطرة على إنتاج وتجارة القات لإنقاذ الاقتصاد من المزيد من الاضمحلال.

وسام شريف سالم – صحفى مصرى

font change