في الإنتخابات اللبنانية: الفرق بين العمليات الإنتخابية والديمقراطية الحقيقية

في الإنتخابات اللبنانية: الفرق بين العمليات الإنتخابية والديمقراطية الحقيقية

[escenic_image id="555624"]

حالة التعايش السياسي في لبنان

حزب الله يستخدم السلاح لكي يعوض  خسارته الإنتخابية

يسعى حزب الله لإستعادة إتزانه المفقود بعد الإنتخابات اللبنانية. وفى هذه الأثناء قد لا ترغب القوى المعتدلة في مناقشة الموضوع الشائك الخاص بأسلحة الحزب في الوقت الحالي.

مضى أكثر من شهر على واقعة الإنتخابات النيابية اللبنانية، واليوم باشر اللبنانيون مخاضاً عسيراً آخر يتمثل في السعي إلى تشكيل الحكومة الأولى المنبثقة عن هذه الإنتخابات. وصحيح أن الفوز كان لتحالف "14 آذار"، لكن تحالف "8 آذار" الذي يتزعمه حزب الله ما زال يملك القدرة بذل الجهد، وهي قدرة لم يمنحه إياها الدستور والقانون، لكنه أخذها بقوة سلاحه في السنوات الأربع الفائتة. ذلك السلاح الذي اختبره اللبنانيون في 7 أيار عام 2008.

خلق سلاح حزب الله الدافع الضمني والمعلن في آن واحد، وجعل الغالبية من اللبنانيين تتوجه في 7 حزيران إلى صناديق الاقتراع للتصويت ضده. الجميع في لبنان يعلم أن الاقتراع كان ضد استخدام العنف بالدرجة الأولى. غير أن ذلك لا يعني أن لدى هؤلاء الناخبين وهماً بأن تصويتهم ضد تحالف "8 آذار" سوف يضمن إنتصارا حقيقياً عليه. بدلاً من ذلك، اعتبروا التصويت نصراً رمزياً على الحزب ويرجع ذلك لعدم قدرتهم على تحقيق هدفهم بنزع سلاحه.

هذه المعادلة تبدو جلية اليوم، وهي تماماً وراء عدد من الوقائع التي قد تكون غير واضحة لمراقب من الخارج. ففي أعقاب فوز "14 آذار" على سبيل المثال،  في الإنتخابات أُنتخب نبيه بري مجدداً رئيساً لمجلس النواب. وبري هو أحد رموز تحالف "8 آذار" الذي خسر المعركة الإنتخابية، وأيضاً رئيس "حركة أمل" الذراع الميدانية لحزب الله في شوارع بيروت، وكانت له بصمات خاصة في مرحلة الفوضى التي شهدتها السنوات السابقة، فعلى سبيل المثال أقفل بري مجلس النواب في تلك المرحلة مانعاً الأكثرية النيابية من لعب دورها البرلماني. وعلى رغم هذا إنتخب بري، فقط بأصوات منحه إياها كل من وليد جنبلاط وسعد الحريري، لما صار اليوم رئيساً. ولنفكر قليلاً بالأسباب التي دفعت جنبلاط والحريري إلى جعله رئيساً.

سلاح حزب الله لم يكن بعيداً عن قرار منح بري أصواتاً تجعله رئيساً للبرلمان، وإن لم يلوح أحد بهذا السلاح مباشرة. كان استخدام العنف من قبل حزب الله وأزمة لبنان وسط هذا العنف حاضراً في عقل الحريري وجنبلاط عندما إتخذا قرارهما والإقتراع لبري كان واحداً من تسويات يجد اللبنانيون أنفسهم مدفوعين لإجرائها في ظل عجزهم عن مواجهة هذا السلاح.

سلاح حزب الله هو المادة الفعلية للسياسة في لبنان، وكل ما عداه ليس أكثر من لعبة أقنعة. فمساعي تشكيل الحكومة اليوم لا تخلو من وقائع متصلة بمركزية مشكلة السلاح. والبيان الوزاري للحكومة العتيدة (في حال تشكيلها) سيعيد استنساخ البيانات الحكومية السابقة لجهة إعطاء شرعية لاستخدام العنف، ولكن هل يمثل ذلك رغبة فعلية للكتل البرلمانية في أن تسمح للحزب بإحتفاظه بأسلحته ؟ الجواب سيكون "لا" كبيرة، وحزب الله على دراية بهذه الـ"لا" ولقد اختبرها في الإنتخابات الأخيرة.

ولا يبدو أن حزب الله راغب في أن يشعر اللبنانيون بأن سلاحه خارج المعادلة الداخلية على رغم ترديد مسئوليه أن هذا السلاح وظيفته محددة بمواجهة المخاطر الإسرائيلية. فلندقق مثلاً بالجهد الذي بذله الحزب لإبعاد الشُبهة الداخلية لوظيفة هذا السلاح، وعندها سنجد أنه لم يبذل أدني جهداً في هذا السبيل. وقائع الأسابيع القليلة الفائتة تؤكد ذلك، فالسلاح في أيدي حلفائه في "حركة أمل" - والذي أفضى إلى سقوط قتيلة في العاصمة- مربوط في وعي اللبنانيين بـ"السلاح الأم" ومغطى منه، وعلى رغم ذلك لم يبادر الحزب ولم يسعى إلى تبديد هذه الشبهة. وفي الضاحية الجنوبية التي يسيطر عليها الحزب أمنياً وعسكرياً قام عشرات من الشبان المسلحين باقتحام مرآب لقوى الأمن الداخلي وقيدوا عناصر الحراسة وأخذوا سيارات كانت محتجزة فيه. أعلن ذلك وزير الداخلية، ولم يحرك الحزب ساكناً، ولم يستنكر. وعشرات الوقائع اليومية في بيروت وضواحيها تؤكد هذا الافتراض.

لا يرغب حزب الله بأن يشعر أحداً بأن سلاحه خارج المعادلة الداخلية. فهو عنصر تفوقه الوحيد، خصوصاً بعد خسارته الإنتخابات النيابية. ومعادلة سلاح الحزب هذه ستكون العلامة الأبرز التي ستطبع الحياة الداخلية في لبنان في المرحلة المقبلة.

سلاح الحزب اليوم "خارج النقاش" كما يؤكد مسئولون في "8 آذار" وفي "14 آذار". فقد تحول هذا السلاح إلى قيمة ضمنية لتعديل الخسارات، وصار جزءاً من وعي اللبنانيين بمأزقهم، ومحاولاتهم مداراة هذا المأزق. لكنه سلاح داخلي... فعلاً داخلي، وحزب الله لا يرغب في إقناعنا خلاف ذلك.

حازم الأمين - كاتب ومحقق صحفي ببيروت.

--------------------------------------------------------------------------------------------

حالة التعايش السياسي في لبنان

مأزق الديمقراطية في لبنان

كانت الانتخابات اللبنانية الأخيرة بمثابة اختبار حقيقي لإرادة تعزيز الديمقراطية.

تقف الديمقراطية اللبنانية مرة جديدة، أمام اختبار حساس ودقيق نتيجة التمزق الدائم الذي يعيشه "وطن الأرز" بين كونه من الديمقراطيات النادرة في الشرق الأوسط وتركيبته الطائفية والمذهبية الهشة.

والمفارقة اللافتة في هذا الإطار هي أن لبنان يجد نفسه أمام هذا الاختبار بعد إنتخابات نيابية كرست وفق نتائجها القاعدة الديمقراطية المتعارف عليها والتي تفرض حكم الأكثرية ومعارضة الأقلية. فيما يخشى أن تضرب القاعدة الواقعية القسرية المسماة "الديمقراطية التوافقية" الأساس البنيوي والجوهري للديمقراطية بإحلال المعارضة كشريك دائم إلى جانب الأكثرية في الحكومة. ذلك أن تسوية الدوحة التي أوصلت الرئيس ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة في أيار 2008، رتبت في مقابل هذا الإنجاز ثمناً سلبياً على النظام الديمقراطي في لبنان. إذ أعطت المعارضة حق "الفيتو" على القرارات الحكومية من خلال ما سمي بـ"الثلث المعطل" الذي أحدث سابقة غير دستورية تمثلت بإعطاء المعارضة الثلث زائد واحد من مقاعد الحكومة بما يمكنها من تعطيل التصويت بأغلبية الثلثين الدستورية على أي قرار ترفضه.

وإذا أمكن الآن الالتفاف على مطلب المعارضة مجدداً بنيل هذا الثلث المعطل من خلال ضمانات أخرى بأشكال متنوعة، فإن فرض مبدأ حكومات إتحاد وطني في شكل دائم يعرض بدوره الديمقراطية اللبنانية لخطر الزعزعة والانحراف عن الأصول المتبعة. فهذا النوع من الحكومات غالباً ما يكون في الأنظمة الديمقراطية الطبيعية هو الاستثناء وليس القاعدة. وقد شكلت الحكومة الأخيرة للرئيس فؤاد السنيورة في تجربتها التي استمرت نحو 11 شهراً ما بين تسوية الدوحة والإنتخابات اللبنانية الأخيرة تجربة حية على إنزلاق التقاليد الديمقراطية اللبنانية تدريجاً نحو نظام جديد غير مكرس في الدستور، بل من خارج النظم الدستورية. فكانت بمثابة اختصار واقعي للبرلمان داخل الحكومة باعتبار أنها ضمت وزراء من كل الكتل البرلمانية وحظيت فيها المعارضة بحق الثلث المعطل. ونجم عن هذه التجربة ضرب الأساس القوي للنظام القائم مبدئياً على الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. كما رتبت هذه التجربة انعدام القدرة على محاسبة الحكومة أمام البرلمان لأن المعارضة في هذه الحكومة كانت شريكاً تنفيذياً وكانت جزءاً أساسياً من السلطة ولم يعد يصح وصفها بالمعارضة الجادة.

وكان يمكن أن تضع الإنتخابات الأخيرة حداً حاسماً لهذا المزج الغريب بين موجبات وظروف سياسية وأمنية قسرية فرضت هذه التجربة المؤقتة والإنتقالية، علماً أن إتفاق الدوحة وضع على أساس مؤقت ومرحلي تنتهي فاعليته عند الإنتخابات النيابية. لكن تكليف زعيم الغالبية سعد الحريري تشكيل حكومة جديدة على أساس مشاركة المعارضة فيها تكراراً ينذر بخطر أساسي على النظام الديمقراطي بحيث يرتب تكريس "الديمقراطية التوافقية" وتثبيتها كأمر واقع قسري ودائم بذريعة الحفاظ على السلم الأهلي في بلد غالباً ما تهدد أزماته السياسية والأمنية والإقتصادية الأصول الديمقراطية المكتوبة والمتبعة على مر السنين.

ولعل النتيجة الدراماتيكية الأخرى التي تبرز مع الإتجاه إلى تمديد مفعول تسوية الدوحة، ولو بأشكال مختلفة عبر إعطاء المعارضة حق الفيتو والشراكة في الحكومة، هي أن الإنتخابات التي اجريت قبل شهر تبدو وكأنها لم تغير شيئاً في واقع النظام القسري. فجل ما أنتجته هذه الإنتخابات أنها كانت استفتاء أكد عبره الشعب اللبناني أنه جدد ثقته بغالبية قوى 14 آذار ، فيما يعود تشكيل الحكومة إلى إسقاط هذه النتيجة وفرض حكومة يتحكم بقراراتها ميزان قوى بين غالبية نيابية وأقلية تحظى بامتيازات تجعلها أقرب إلى أكثرية أخرى، مما يعطل تماماً النظام المكتوب للبنان ولمصلحة نظام أخر يندر إتباعه في الديمقراطيات الجدية.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن إتفاق الطائف الذي أنهى الحرب في لبنان عام 1989 أحدث تغييراً في آلية إتخاذ القرار الرسمي عبر نقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، ولكنه لم يلحظ تمثيل كل القوى السياسية في الحكومة. وما يجري من تكرار لتثبيت قاعدة غير دستورية يعني بأبسط الأحوال تحريفاً لميثاق الطائف نفسه الذي كان في أساس الدستور الجديد في لبنان.

ثم أن هناك بعداً آخر يعتبر أشد خطراً على الديمقراطية اللبنانية وهو أن إلزام أي رئيس حكومة جديد بإعتبار المعارضة شريكة في الحكم يستند إلى خلفية الإستقواء بالأنماط الخارجة عن الشرعية. فالثلث المعطل كان النتيجة الفورية لاستعمال أطراف في المعارضة وتحديداً "حزب الله" السلاح ضد أطراف لبنانيين في 7 أيار 2008، وقد استكمل الاجتياح المسلح لبيروت آنذاك بتكريس سابقة الثلث المعطل. وإذا مضت هذه الظاهرة في الترسيخ قدماً فإن ذلك يعني ببساطة وخطورة في آن واحد معاً أن الديمقراطية اللبنانية مهددة بأن تصبح من الماضي.

نبيل أبو منصف - صحفي ومحلل سياسي.

font change