لمحة عن ديميترى ميدفيديف، رئيس الاتحاد الروسي

لمحة عن ديميترى ميدفيديف، رئيس الاتحاد الروسي

[escenic_image id="554835"]

بعد نهاية الحرب الباردة في أوائل عقد التسعينيات، علق الفهم الغربي المغلوط لثقافة روسيا السياسية آمالاً عريضة على ازدهار الديمقراطية في روسيا وأن تصبح أكثر انفتاحا على الأفكار الغربية. وعندما استقال رئيس الاتحاد الروسي بوريس يلتسين من منصبه في شهر ديسمبر من عام 1999، تحطمت هذه الآمال نتيجة تعيين يلتسين لفلاديمير بوتين رئيسا بالنيابة، وكان رئيسا لوزراء روسيا في ذلك الوقت. وتم انتخاب بوتين لفترة ولايته الأولى في شهر مارس من عام 2000 وأعيد انتخابه في 14 مارس لفترة ولاية ثانية، وسرعان ما شابه حكم بوتين وتصرفاته ما يقوم به قيصر في العصر الحديث.

وبداً خليفته ديمتري ميدفيديف إلى حد كبير كأفضل حل لبوتين كي يبقى مسيطراً على السياسة الروسية، حيث كان الأول مقرباً جدا من الأخير. واستخدم الكثيرون عبارات مثل “ديمتري بوتين” أو “فلاديمير ميدفيديف” لوصف ما سيصبح بالتأكيد استمرارا لسياسة بوتين تحت وجه جديد. وبالإضافة إلى ذلك، تنحى بوتين عن الرئاسة ، ولكن ليس عن السياسات العليا. ولم يبد تحول بوتين من رئيس الى رئيس وزراء كتنازل كبير منه حقا، في نظام سياسي حيث تنقسم السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. على العكس من ذلك، كان هذا تأكيدا على وجود نظام سياسي يتركز حول شخص واحد.

تلقى ميدفيديف تعليمه كمحام في سان بطرسبرج، حيث ألقى محاضرات في جامعة لينينجراد وحصل على دكتوراه في القانون الخاص. وبدأ ميدفيديف صلته العملية ببوتين في العاصمة القديمة للإمبراطورية الروسية. وعندما تم تعيين الأخير رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مكتب عمدة سانت بطرسبرج، قام بتعيين ميدفيديف للعمل في فريق الشئون الخارجية. وفي عام 1999، عمل ميدفيديف كنائب لرئيس الأركان فى الكرملين، قبل أن يترأس حملة بوتين الانتخابية في عام 2000. وتم تعيينه رئيسا لعملاق الغاز الروسي وهى شركة جازبروم في عام 2002. وعمل كرئيس للأركان لدى بوتين في عام 2003، ثم النائب الأول لرئيس الوزراء في عام 2005. وفي كل هذه المناصب التي شغلها ميدفيديف، لم يكتسب أبدا شهرة على أنه إصلاحي، ولم يؤكد أيضا إمكانياته باتخاذ نهج أكثر ليبرالية من بوتين. ولكنه من المعروف جيداً أن ميدفيديف ببساطة يؤيد الاستقرار وبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه.

وعندما منع الدستور الروسي بوتين من الاستمرار برئاسة الاتحاد الروسي للمرة الثالثة على التوالي، كان ميدفيديف واحدا من المرشحين المتوقعين والمفضلين لدى بوتين لاحتلال مكانه. وتم طرح اسم ميدفيديف لأول مرة كخليفة محتمل لبوتين في شهر نوفمبر لعام 2005، عندما عُهد إليه بمليارات الدولارات لمزاولة نشاطه كنائب لرئيس الوزراء. ولعب بوتين فى الواقع دوراً بالغ الأهمية في حملة ميدفيديف الانتخابية للرئاسة، وقد ظهرا سوياً على ملصق يحمل شعار “معا سنفوز”.

وبعد تحقيقه لانتصار ساحق، حان الوقت للرئيس الجديد كي يقوم بتعيين طاقمه. ولم يقم ميدفيديف بتعيينات مستقلة إلا قليلاً جدا، وخدم معظم طاقمه في عهد بوتين، بما فيهم رئيس الأركان، سيرجي ناريشكين. وهذه الاستمرارية من عهد بوتين، جنبا إلى جنب مع دعم الرئيس السابق، وبالنظر إلى 17 عاما من التعاون المهني والسياسي بين بوتين وميدفيديف، كل ذلك دعم الفكرة التي مفادها أن ميدفيديف سيكون أداة من نوع ما لبوتين في مشروعه المستمر للسيطرة على النظام السياسي في روسيا.

وفي أول خطاب له عن حالة الدولة، بدا ميدفيديف وكأنه يؤكد أوراق اعتماده هذه. بل بدا في واقع الأمر أكثر فتوراً وتبنى خطابا أكثر عدائية تجاه الغرب من سلفه. في هذا الخطاب، قال ميدفيديف إن الحدثين الرئيسيين في السنة كانا الحرب في جورجيا والأزمة الاقتصادية العالمية. وقال إن “أمريكا هي المسئولة عن الحدثين”. فوفقا لتصريحات ميدفيديف فإن الأزمة الاقتصادية كانت نتيجة “غطرسة وأنانية أمريكا”، وهى عوامل قوضت الأسواق المالية العالمية.

وعلى الرغم من كل هذا، توجد بعض الدلائل للشك في أن ميدفيديف ربما سعى من خلال علاقته مع بوتين للوصول لما وصل إليه الأخير ولكن بمجرد أن يصل ميدفيديف إلى ما وصل إليه سلفه، سيسلك طريقه الخاص ويهرب من ظل بوتين السياسي والفكري. فأولا، دميتري ميدفيديف أول زعيم منذ انحلال الاتحاد السوفيتي ليس لديه أي علاقة رسمية بالحزب الشيوعي السوفيتي السابق، أو المخابرات السوفيتية. وهو ليس أكثر تحررا من بوتين فحسب، بل يوصف بأنه أكثر مدنية ويمتلك عقلية أكثر انفتاحا على العالم الخارجي.

وعقب انتخابه مباشرة، أثارت بعض تصريحات ميدفيديف الكثير من التساؤلات حول ما إذا كان خليفة بوتين قد أدى دوره إلى أن يتم انتخابه فقط ليسلك طريقه الخاص وينأى بنفسه عن سيده. وجاء ضمن هذه التصريحات الحديث عن أهمية الحريات المدنية والاقتصادية والتعهد بتعزيز استقلال القضاء والتراجع عن تدخل الدولة في الاقتصاد -- بعد سنوات من بسط الشركات التي تسيطر عليها الحكومة لنفوذها. وشدد الرئيس أيضا على أهمية حرية الصحافة، قائلا ببساطة شديدة في هذا السياق “الحرية أفضل من عدم وجود الحرية”. وشكل هذا اختلافاً كبيراً عما اعتادت عليه روسيا مع وجود بوتين في الزعامة.

ويمكن النظر إلى مسألة استقلال السلطة القضائية في روسيا، خاصة وأنها تعد مسألة حساسة على أنها تهديد لتطور المؤسسة السياسية القديمة. فعلى سبيل المثال قد يكشف التحقيق النقاب عن مصادر مشبوهة لثروة بوتين التي تقدر بـ 40 مليار دولار.

و يبدو أن ميدفيديف قد قرر أيضا في وقت مبكر من ولايته معالجة البيروقراطية المفرطة في جهاز الدولة الروسية. فهو قد اعتبر أن هذه البيروقراطية الضخمة هي المسئول الأول عن مستويات الفساد المرتفعة في روسيا، نتيجة لتفاقم تدخل الدولة في قضايا الأعمال التجارية الخاصة. وقد قال ميدفيديف في تعليقه على مشكلة البيروقراطية المفرطة وجميع النتائج المترتبة عليها إن: “البيروقراطية تخيف أصحاب الأعمال التجارية حتى لا يرتكبون شيئاً خاطئاً، وتسيطر على وسائل الإعلام حتى لا تقول شيئا خطأ، و تتدخل في الانتخابات حتى لا يتم انتخاب الشخص الخطأ”. وهذا النوع من الأفكار والتصريحات يثير الكثير من التساؤلات حول من هو الزعيم الحقيقي لروسيا.

و بالرغم من انتخابه رئيساً، إلا أن هذا لم يضمن لميدفيديف ملاذ آمن خال من النفوذ السياسي لبوتين. ففي الواقع، لا يمكن لميدفيديف أن ينفصل سياسيا عن بوتين بشكل مفاجئ أو بطريقة جذرية. فأولا وقبل كل شيء، فإن العديد من الناخبين الذين اختاروا ميدفيديف فعلوا ذلك لأنهم رأوا فيه استمراراً لسياسة بوتين التي جلبت الاستقرار إلى روسيا وأنقذتها من الانهيار الاقتصادي عقب انتهاء فترة رئاسة يلتسين. و الانفصال التام و المفاجئ بدلا من الانفصال التدريجي عن التوجهات السياسية لبوتين من شأنه أن يقوض قاعدة التأييد الشعبي التي يحظى بها ميدفيديف بين المواطنين الروس. وعلاوة على ذلك، يعد بوتين بمثابة درع حماية لميدفيديف من هجمات الحرس القديم في الكرملين الذين لا يؤيدون اتجاهات ميدفيديف الليبرالية.

و من الصعب في مجال السياسة الخارجية معرفة ما الذي أدى إلى التحسن الذي طرأ مؤخراً على العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. فهل كان ذلك نتيجة مباشرة للنهج المختلف الذي نتج عن انتخاب ميدفيديف والذي اتسم بكونه نهجا أكثر تعاونا بالمقارنة مع نهج بوتين، أم أن هذا يعود إلى أن سياسة بوش الخارجية الاستفزازية الفاترة تجاه روسيا لم تعد قائمة، أم نتيجة لانتخاب أوباما و نهجه الجديد القائم على الحوار، أم هو مزيج من كل هذه الأسباب وغيرها من الأسباب؟

وبعد أول لقاء بين هيلاري كلينتون والروسي سيرجي لافروف، الذي أظهر فيه الطرفان رغبتهما القوية في “محو” الماضي القريب فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية بين القوتين العظميين، التقى أوباما بميدفيديف في السادس من شهر يوليو، وذلك لمناقشة مجموعة من القضايا الهامة التي تتعلق بإدارة الترسانات النووية، والمخاوف من انتشار الأسلحة النووية والقضايا المتعلقة بسعي كوريا الشمالية وإيران لتطوير برنامجهما النووي، والتعاون العسكري بين البلدين، ومشكلة الولايات المتحدة مع أفغانستان، وخطر الإرهاب. وعلى الرغم من بعض الخلافات في الرأي التي لا مفر منها، إلا أن هناك تقدماً ملموساً قد حدث، تضمن توقيع اتفاق انتقالي هام  حول جهود الولايات المتحدة في أفغانستان. ومن المستبعد أن مثل هذا التحسن في العلاقات بين البلدين كان سيحدث في ظل رئاسة بوتين.

و قد تعزز الغموض الواضح الذي يكتنف موقف ميدفيديف في النظام السياسي الروسي وولائه لبوتين وأفكاره من خلال الاقتراح الذي قدمه بخصوص فترة الرئاسة في روسيا. وقد كانت هذه الفكرة التي طرحت في عهد بوتين، تهدف إلى تمديد فترة الرئاسة من أربع إلى ست سنوات. وقد نُفذ هذا التغيير بالفعل في أواخر عام 2008 ، ليصبح سارياً في عام 2012 بعد إجراء الانتخابات الرئاسية. ولكن الكثير من المحللين يرون أن المستفيد الرئيسي من هذا التغيير الدستوري هو بوتين نفسه. و بالفعل فإنه إذا رشح بوتين نفسه للرئاسة مرة ثانية بعد انتهاء فترة رئاسة ميدفيديف، وهي انتخابات من المرجح أن يفوز فيها، فإنه سيكون قد بقى في السلطة لمدة 12 عاما كاملة.

و ربما تسنح الفرصة لتطبيق توجهات ميدفيديف وميوله الليبرالية، خاصة مع الأزمة المالية الحالية، التي تهدد الاقتصاد الروسي بالانكماش مع تزايد التضخم وهبوط أسعار النفط  وبحث أوروبا عن بدائل جديدة لمصادر الطاقة واستمرار انخفاض قيمة الروبل بالإضافة إلى زيادة اعتماد روسيا على الواردات والاستثمارات الخارجية. ولكن شيئاً واحداً يبدو مؤكداً، هو أنه إذا كان قدوم ميدفيديف سيحدث تغييرا في روسيا، فإن هذا التغيير سيحدث ببطء شديد جديد.

font change