التنازل التكتيكي لبغداد لا يعد بادرة طيبة

التنازل التكتيكي لبغداد لا يعد بادرة طيبة

[escenic_image id="556085"]

في الحرب وعالم الأعمال هناك أمرُ يُعرف بالإنسحاب التكتيكي وهو انسحاب إستراتيجي منظم خلال فترة الهدوء التي تسبق العاصفة.

وينطبق هذا الأمر تماماً على تنازل بغداد الظاهر للأكراد بشأن صادرات النفط، سواء من ناحية الحرب أو التجارة.
وتريد حكومة إقليم كردستان أن تبسط سيطرتها على عدة مناطق، وهي نينوى وكركوك الغنية بالنفط. ولكن الحكومة المركزية الأكثر حزماً تحت رئاسة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قد وحدت الشيعة والعرب السنة في إطار الهدف المشترك لمنع المزيد من التنازلات للأكراد.

لذلك حين سمحت وزارة النفط العراقية بصادرات رمزية تصل إلى 100 ألف برميل يومياً تخرج من الإقليم الكردي المستقل جزئياً إعتباراً من 1 يونيو، ازدادت التوقعات بأن يتم حل المعضلة  ولكن القرار في الواقع يختلف اختلافاً بيناً عما كان عليه الحال في الماضي فهو يضفي الشرعية -على الأقل بشكل جزئي ومؤقت- على أكثر من اثنتي عشرة صفقة نفط وغاز وقعتها حكومة إقليم كردستان مع شركات أجنبية.

وعزز القرار الآمال أيضا بفتح الباب أمام زيادة الإستثمار في العراق، وقد أعاق النزاع السياسي إعادة إعمار العراق حيث تصبح تشريعات معينة مثل قانون النفط الحيوي رهينة الإنقسامات الطائفية في كثير من الأحيان.

غير أنه بدلا من تحقيق تقدم، يبدو أن استسلام بغداد هو خطوة محسوبة لزيادة عائدات النفط بشكل مؤقت، وهو أمر تشارك فيه حكومة إقليم كردستان، بينما تكسب بغداد مزيداً من الوقت خلال نزاعها الأكبر. وبالفعل، فإنه بدلا من أن يبشر تنازل بغداد الظاهر بأوضاع أفضل، فإنه قد يكون مؤشراً على مزيد من المشاكل في المستقبل.

من الواضح أن دافع بغداد هو المال، فقد إنخفضت صادرات النفط العراقية مؤخراً بمقدار 250 ألف برميل يومياً، وتزامن ذلك مع إنخفاض أسعار النفط. ويحد هذا الأمر من قدرة الحكومة على تمويل ميزانيتها المتقلصة بالفعل والتي تعتمد بشكل شبه كامل على النفط.

ولكن سوف تحتفظ وزارة النفط بالتسويق التجاري للنفط الخام، وبالتالي من المفترض أن تجني أرباحاً من ورائه ووفقا لهذا السيناريو، سوف تحصل حكومة إقليم كردستان على 17 % من هذه الأموال، كما هو الحال بالفعل مع كل عائدات النفط العراقي.

وهذه النسبة أقل من 18 إلى 20 % والتي وافقت حكومة إقليم كردستان على دفعها للشركات عندما وقعت إتفاقيات إنتاج مشترك مع شركات أجنبية. وما تزال وزارة النفط تعتبر تلك الصفقات غير مشروعة. ومع ذلك، فان عمالقة النفط على مستوى العالم المتعطشين إلى الإتفاقيات المربحة للإنتاج المشترك والتي تعرضها حكومة إقليم كردستان، خلافاً لحكومة العراق قد يتساءلون عما إذا كانت تلك الصفقات سيتم إجازتها قانونياً في نهاية المطاف.

وقالت حكومة إقليم كردستان إنه في غضون أيام بالفعل سوف تدر إتفاقية تقدر بـ 8 مليارات دولار تم توقيعها بين الدول الأوروبية وشركات الإمارات العربية المتحدة بدون موافقة بغداد عائدات ضخمة للإقليم، بغض النظر عما قالته وزارة النفط.

لكنه من غير المحتمل أن يتم المضي قدماً في صفقة الغاز الطبيعي والتي أبرمتها حكومة إقليم كردستان على غير رغبة بغداد، وعلى الأقل لا يمكن فهم الصفقة سوى أنها نوع من الإستفزاز، إذ يبدو أنه قد تم تدبيرها سياسياً وخاصة أن الأكراد أو حتى هذه الشركات تجد صعوبة بالغة في تصدير الغاز والنفط (وبالمناسبة، فإن المسئولين الأوروبيين الذين احتفوا بهذا الإتفاق أيضاً، ينبغي أن يمارسوا المزيد من التحفظ ويتفادوا تأجيج التوترات الطائفية من خلال تشجيع الفردية الكردية، وتنافس صفقة الغاز الكردية مشروعاً آخر لتصدير الغاز إلى أوروبا تابع لوزارة النفط) .

وفي النهاية يرجع الأمر إلى الدول المجاورة للعراق، والتي تتشارك المخاوف حول طموحات الأكراد للإستقلال ويقع الإقليم شبه المستقل محاصراً بين دول تدعم بغداد ومن المؤكد أن صفقات النفط والغاز تحتاج لمباركة تركيا، وهو أمر غير محتمل بدون موافقة العراق إذا أخذنا في الإعتبار مشاكل أنقرة مع حزب العمال الكردستاني.
وماذا بعد؟

وبخلاف حصول العراق على نحو 6 ملايين دولار نقدية إضافية يومياً لا تتوقع الكثير، فقد تنخدع بعض الشركات الصغيرة بإنشاء متاجر في كردستان، وقد تتوهم بأن الإنقسامات الطائفية سوف تهدأ ولكن لن تنخدع الشركات الكبرى بذلك وبالتأكيد لن تنخدع شركات النفط التي ستجنى نصيب الأسد من أي إستثمار في البلد.

لا توجد أية بوادر على إحتمال حدوث إنفراج سياسي، ولا أية مؤشرات على أن هناك قانوناً للنفط يلوح في الأفق، في الواقع قد يكون العكس هو الصحيح فدعونا لا ننسى أن الإنتخابات البرلمانية سوف تجرى هذا العام، وسوف تواصل القوات الأمريكية تسليم السيطرة العسكرية على العراق إلى الحكومة المركزية.

ويشير قرار بغداد بدلا من ذلك إلى أن الجانبين يستعدان للأسوأ وقد يعني هذا إحتمال نشوب حرب أهلية في العراق تضع جيش العراق الشاب والمدرب جيداً في مواجهة البشمركة "الميليشيا القوية لحكومة إقليم كردستان".

وقد تبادل كلا الجانبين إطلاق النار بالفعل، رغم أنه لا يمكننا تسمية ذلك بالمعركة ولكن المصادر الأمنية التي تحدثت معها مؤخراً تقول إن الجيش الأميركي فقط هو الذي منع التصعيد العسكري غير أنه ليس مؤكداً إلى متى سوف يستمر ذلك نظراً للإستفزازات المتبادلة، في الحقيقة كلا الجانبين لديه قناعة بسهولة إلحاق الهزيمة بالآخر ويبدو الأمر كما لو كانا يريدان القتال.

ويعرف الأكراد أن الوقت ليس في صالحهم والمالكي في طريقه إلى إعادة إنتخابه من جديد وحتى إذا لم يتم إنتخابه، فسوف يرث حكومة مركزية أقوى بكثير وعلى استعداد لمواجهة الإقليم الشمالي إذا ما أصر على مطالبه الإقليمية، فكركوك ليست مجرد عاصمة كردية تاريخية يرتبط بها الأكراد وجدانياً وإنما تحتوى أيضا على نحو 4 % من النفط في العالم، وهى جائزة تستحق القتال عليها.
وتعلم بغداد أيضا أن الصراع لا يمكن تجنبه إلا إذا تخلى الأكراد عن طموحات إستقلال ترجع لقرون، وبعد أن أصبحت الآن أقرب من أي وقت مضى.

قد تكون بغداد ابتاعت لنفسها بعض الوقت بالتنازل عن بعض الصادرات النفطية. ويمكنها التراجع عن ذلك كما فعلت مع العديد من القضايا الأخرى، وتعرف حكومة إقليم كردستان ذلك.

ويأمل المرء في إمكانية حل هذه الأزمة سلمياً. وإذا لم يحدث ذلك، سوف يعانى العراق من ضربة تصيبه بالشلل وسوف يكون الأمر تراجعاً له عواقبه الوخيمة التي قد تهدد الشرق الأوسط كله. إنها القضية الوحيدة التي يمكن أن تجر الدول المجاورة للعراق إلى الحرب وسوف تكون حكومة إقليم كردستان مفتقدة للحكمة إذا خاطرت وعرضت نفسها لأزمة ممتدة. فسوف تخسر على المدى الطويل لأنه سيكون من السهل على جيرانها القيام بتدميرها. فمستقبل هذه الحكومة يرتبط ببقية العراق، سواء شاءت أم أبت.

ويعتمد النمو الإقتصادي والإستثمار في حكومة إقليم كردستان وبقية العراق إلى حد كبير على هذه القضية وتتمتع بغداد بقدر من القوة يجعلها قادرة على تحديد خط أحمر لا يمكن تجاوزه.

وسوف يتعين على أربيل في نهاية المطاف أن تختار أحد خيارين: إما طمأنة كل من حولها على أنها لن تسعى إلى الإستقلال أو خوص حرب أهلية.

اندريس كالا - صحفي مستقل وكاتب ببعض الصحف الأمريكية منها "نيويورك تايمز" وعالم سياسي ويغطى بإنتظام سياسات الشرق الأوسط وأوروبا وكاتب في شؤون الطاقة.

font change