بأيهما تبدأ دمشق: تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة أم الدخول في مفاوضات مع إسرائيل؟

بأيهما تبدأ دمشق: تعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة أم الدخول في مفاوضات مع إسرائيل؟

[escenic_image id="555959"]

لقد تحسنت رؤية دمشق مؤخراً، فقد شهدت السنوات الأخيرة من إدارة بوش قيام الساسة الأوروبيين والأمريكيين بالإنهاء التدريجي لمقاطعة البيت الأبيض لدمشق دبلوماسياً في محاولة للإقتراب من الرئيس بشار الأسد. وفي نفس الوقت، كانت المفاوضات غير المباشرة مع الحكومة الإسرائيلية السابقة بزعامة إيهود أولمرت بمثابة إيماءة إلى أن محادثات السلام مع تل أبيب يمكن أن يتم إحياؤها في القريب العاجل. وأخيراً، بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة في يناير الماضي تحدث "باراك أوباما" عن التقارب مع الدول المنبوذة وأشار إلى رغبته في تحريك عملية السلام على مستوى إقليمي متعدد الأطراف، ربما في صورة مبادرة السلام العربية 2002. وكانت هناك أنباء يتم تداولها في دمشق بأن التقارب من جديد بين سوريا والولايات المتحدة وإحياء محادثات السلام مع إسرائيل بمثابة إمكانية فعلية.

ولسوء الحظ، لم يستوعب "بنيامين نتنياهو" رئيس الحكومة الإسرائيلي المنتخب في فبراير الرسالة جيداً، فبالرغم من أنه أعرب عن إستعداده للتفاوض مع سوريا إلا أنه استبعد بالفعل إعادة مرتفعات الجولان إلى الحظيرة السورية؛ وهو المطلب الذي وضعه الرئيس الأسد شرطاً لبدء المحادثات. ولطالما ربط الرئيس السوري إجراء أي محادثات مع إسرائيل بفتح صفحة جديدة من العلاقات السورية الأمريكية، وانتظرت دمشق طويلاً من الولايات المتحدة أن تلعب دور الوسيط في مفاوضات السلام. ومع ذلك، فنظراً لأن الأسد يواجه الآن شريكاً في تل أبيب ليس لديه إستعداد لتقديم تنازلات وأن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يُظهر بالفعل مزيداً من الإزدراء نحو المماطلة الإسرائيلية وعدم التحرك من جانب تل أبيب، مقارنة بسلفه، يبحث هذا المقال مدى التغير الذي يعتري العلاقات التي تربط سوريا والولايات المتحدة وإسرائيل وإنعكاسات ذلك على مفاوضات السلام. 

ملائمة سوريا بالنسبة لسياسة أمريكا في الشرق الأوسط منذ 11/9 كانت أمراً يتسم بتناقض غريب حيث كان الملف السوري أقل ارتباطاً وأكثر أهمية في ذات الوقت. فنظام البعثيين أقل قوة على المستوى الإقليمي في عهد بشار الأسد مقارنة بعهد أبيه وهناك تدهور مستمر في القوات المسلحة السورية بدأ منذ انهيار راعيها السوفيتي، ولم تعد دمشق تكافؤ تل أبيب من الناحية الإستراتيجية؛ كما كان يحلم حافظ الأسد والدليل على هذا الوضع المتردي للقوات المسلحة السورية قيام إسرائيل بإنتهاك الأجواء السورية عن طريق عدة غارات جوية شنتها مؤخراً. وعلى الصعيد الدولي، أجبرت سوريا على الخروج من لبنان في عام 2005 ولم تسعَ إلا منذ عهد قريب إلى تجاوز المقاطعة الدبلوماسية من جانب القوى الغربية المترتبة في أعقاب خروجها من لبنان. ومن الناحية المالية، لا تزال إصلاحات السوق محدودة ويسير الإقتصاد السوري بخطى بطيئة نتيجة للعقوبات الأمريكية المفروضة على دمشق. 

ومع ذلك وجدت سوريا في عزلتها النسبية أوراق ضغط جديدة تؤكد من خلالها أنه من الصعب على واشنطن تجاهلها؛ ومما يزيد هذا الموقف تعقيداً زيادة التدخل الأمريكي في المنطقة. وحيث إنه أصبح احتواء إيران الآن من بين الأولويات الأمريكية، فقد أصبح التحالف بين دمشق وطهران الذي استمر ثلاثة عقود بمثابة ورقة مساومة يمكن أن يستغلها الأسد. وبينما يحاول أوباما تحقيق الإستقرار والخروج من مستنقع العراق، أصبح مدى تضييق سوريا الخناق على المتمردين لمنعهم من المرور عبر حدودها بمثابة عنصر آخر للتفاوض، وكذلك فقد برزت درجة التدخل السوري في السياسة اللبنانية منذ إنسحاب 2005 لتصبح بمثابة نقطة خلاف بين دمشق وواشنطن. وفي حين أن الاستمرار في الضغط على دمشق لوقف دعمها لحماس وحزب الله لا يزال بمثابة أولوية لدى واشنطن، يجد أوباما نفسه مضطراً للعمل مع دمشق لحل عدد من القضايا بخلاف الملف السوري الإسرائيلي.   

وقد دفع التحول في المناخ الدولي دمشق إلى إعادة ترتيب أولوياتها أيضا. وبينما تظل عودة الجولان، والحاجة إلى وجود 'سلام عادل' مع إسرائيل هي الشغل الشاغل للنظام، أصبحت الهموم الاقتصادية هي الأمر الملح بالنسبة لدمشق، وقد فشل التبني المحدود لنظام السوق الحر في مواجهة التأثير السلبي على الإقتصاد السوري سواء بسبب الأزمة الاقتصادية الراهنة أو العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة.

وبينما كانت وجهة النظر التقليدية السابقة في دمشق تتمثل في أن السلام مع إسرائيل سوف يؤدي إلى الإنفتاح الإقتصادي من جانب الولايات المتحدة – رغم أنه سيأتي في شكل إستثمار أكثر من كونه مساعدات مباشرة كما هو الحال مع الأردن ومصر – إلا أن كبار الشخصيات في النظام البعثي الآن يشيرون بأن الحاجة إلى رؤوس أموال فورية هي أمر أساسي سواء في ظل وجود سلام إسرائيلي أو بدونه.

وقد أعترف مؤخراً نائب رئيس الوزراء والمخطط الإقتصادي "عبد الله درداري" في مقابلة مع رويترز أن العقوبات لها تأثيرها، وأن الإقتصاد لا ينمو وفق المعدل المتوقع. ومع وجود نسبة بطالة تقترب من 20 ٪  بالإضافة إلى بيروقراطية متضخمة وغير فعالة وبنية تحتية متهالكة، يبدو أن مخططي السياسة السورية يدركون الآن أن إصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة وما يستتبع ذلك من إستثمارات وإنهاء للعقوبات بمثابة أولوية تسبق التفاوض مع تل أبيب.
فإذا تمكنت دمشق من الحصول على رضا الولايات المتحدة على المدى القصير دون التفاوض مع تل أبيب، فإن ذلك يروق للنظام هناك على المستوى الداخلي، وفي حين لن تتخلى الحكومة أبداً عن أولويتها المتمثلة في استرداد مرتفعات الجولان فإن استمرار غياب الهضبة يوفر ذريعة لبقاء الحكم الاستبدادي.

فالنظام يستغل 'الحرب" مع إسرائيل لتبرير استمرار حالة الطوارئ منذ عام 1963، وتعليق سيادة القانون وتأخير وعد بشار الأسد بالتحرر السياسي وبعد أن وعد بشار بتوفير 'الخبز قبل الحرية' عند صعوده للسلطة في عام 2000، فإنه إذا كان التقارب الأمريكي والإستثمار يمكنهما تحقيق ثراء مادي أكبر، ففي هذه الحالة يمكن للوضع الراهن مع إسرائيل أن يصبح وسيلة مفيدة لتجنب المطالبات بالإصلاح الداخلي.

كثير من الأمور تتوقف على النهج الذي ستسلكه قيادة البيت الأبيض الجديدة ورغم أن واشنطن مددت مؤخراً العقوبات على دمشق لمدة سنة أخرى، مما أزعج الشخصيات الموالية لأوباما مثل الدرداري إلى حد كبير، فإن الإتصالات الدبلوماسية أصبحت أكثر انتظاماً. وقد أجرت هيلاري كلينتون ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ جون كيري اتصالات هاتفية عديدة مع دمشق مؤخراً، وتتردد شائعات حول زيارة المبعوث الخاص جورج ميتشل لدمشق قريبا. وفي نفس الوقت، بينما تبدو الإدارة الحالية أكثر استعداداً من الحكومات الأمريكية السابقة لإجبار تل أبيب على التحرك، يبدو أن الضغط مقتصر حتى الآن على قضية الإستيطان والتعامل مع الفلسطينيين أكثر من السوريين.

ويبدو أنه في صالح السوريين استعداد إدارة أوباما لاستئناف الاتصالات والدخول في حوار مع دمشق دون ربط ذلك بإستئناف المحادثات مع إسرائيل. ومن جهة أخرى، ليس من المرجح أن تسمح الأصوات القوية المناهضة لسوريا والموالية لإسرائيل في الكونجرس بإنهاء العقوبات دون ربطها بمحادثات سلام مع تل أبيب.

وربما يكون أوباما على إستعداد لمخالفة مثل هؤلاء الناقدين وإعادة العلاقات الدبلوماسية  والإقتصادية مع دمشق بشكل كامل على أية حال. أو ربما يتبنى نفس سياسة الذراع القوية للضغط على إسرائيل لإجراء مفاوضات مع سوريا، تلك السياسة التي يتبناها حيال المستوطنات في الضفة الغربية. إلا أنه لكي يفعل ذلك فسوف يريد شيئاً في المقابل.

لقد نجحت سوريا في الحصول على ذخيرة جيدة من أوراق المساومة مع واشنطن في السنوات الأخيرة. وإذا أرادت دمشق أن تتقدم المفاوضات مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، فسوف تحتاج للبدء في استخدام أوراقها.

كريس فيليبس - باحث في مركز السياسة الخارجية بلندن، وصاحب عمود عن سياسات الشرق الأوسط بجريده لجارديان الإلكترونية.

font change