الإنتخابات الإيرانية: الإصلاحيون يعتبرونها صراع وجود فيما يعتبرها المحافظون تكريساً لسلطتهم

الإنتخابات الإيرانية: الإصلاحيون يعتبرونها صراع وجود فيما يعتبرها المحافظون تكريساً لسلطتهم

[escenic_image id="555942"]

كان من الممكن للإنتخابات الرئاسية الإيرانية أن تمر مرور الكرام من دون أن يرافقها هذا الجدل الواسع والمتابعة الدقيقة لو أن النظام وقيادته في طهران ترك للعملية الديموقراطية أن تسير في مساره العادي والطبيعي، غير أن حجم التحدي الذي شكله الخطاب الإصلاحي منذ عقد من الزمن حول هذه الإنتخابات حالياً إلى معركة وجود بين نظريتين متعاكستين حتى لا يقال متناقضتين، واحدة تريد سوق إيران نحو ترسيخ نظرية ثيوقراطية بمحورية ولي الفقيه أو المرشد الأعلى، وأخرى تريد الحفاظ على الشعار الذي شكل إحدى أسس الثورة في المزج بين الجمهورية والإسلامية والتأكيد على رأي الشعب أو كما عبر آنذاك المؤسس آية الله الخميني "الميزان هو رأي الشعب".

هذا الصراع بين النظريتين تبلور بشكله الحاد خلال رئاسة "محمود أحمدي نجاد" التي كانت مهمتها التمهيد العملي لترسيخ هذه الثيوقراطية وتركيز السلطة في يد ولي الفقيه من دون منازعة أو مساءلة بعد أن استطاعت الأجهزة التابعة له إقصاء القوى الإصلاحية الوفية لمنطلقات الثورة عن ساحة التأثير، وهي تحاول حالياً من خلال التوسل بكل الأساليب للإبقاء على هذه السيطرة، لكن عودة أو إستفاقة القوى الإصلاحية والشارع الشعبي مدفوعة بالخوف على إستمرارية إيران وتجربتها التي أربكت مسار دعاة الثيوقراطية، خصوصاً التحدي الذي سيشكله دخول "مير حسين موسوي" السباق الرئاسي والذي يتجاوز كونه صراعاً على الرئاسة بين مرشحين ليصل إلى صراع بين نظريتين قطباها الثيوقراطي خامنئي والديمقراطي موسوي.

لم تكن الأرقام التي قدمها النائب الإصلاحي "بهروز أفخمي" عن حجم القاعدة الشعبية للتيار المحافظ والكتلة الناخبة له في خطابه الأول والأخير أمام البرلمان الإصلاحي عام 2004 بعيدة عن الواقع خصوصاً وأنها جاءت بعد ان إستطاع التيار المحافظ إنتزاع المجالس البلدية في المدن الكبرى خصوصاً في طهران من يد التيار الإصلاحي في معركة شكلت إختباراً لمعركة يعد لها للسيطرة على المقاعد النيابية.

أفخمي في خطابه أعتبر أن القاعدة الشعبية التي مكنت المحافظين من إنتزاع البلديات خصوصاً في العاصمة طهران لا تتعدى العشرة بالمئة من مجموع الناخبين ولا تتجاوز الخمسة عشر في أفضل التقديرات في كل إيران.

وفي مقارنة سريعة، ففي العام نفسه جرت الإنتخابات البرلمانية التي أستبعد فيها الإصلاحيون إما بسيف مجلس صيانة الدستور أو بالسماح فقط لأشخاص مغمورين بالترشح، فتصدر لائحة الفائزين في طهران غلام علي حداد عادل الذي تولى لاحقاً رئاسة البرلمان بمجموع أصوات لم تتعد 800 ألف صوت في حين فاز "محمد رضا خاتمي" قبل أربع سنوات بمجموع أصوات تجاوز 2 مليون ومائتي ألف صوت.

تراجع نسبة المشاركة الشعبية كان هدفاً سعت له السلطة والتيار المحافظ لأن فرصة إستعادة زمام السلطة والسيطرة لم تكن ممكن في تصورهم في حال كانت المشاركة الشعبية واسعة في أي عملية إقتراع، من هناك كانت الخطة التي حيكت بتأن وإتقان على مدى ثماني سنوات من رئاسة السيد "محمد خاتمي" تقوم على إحباط القاعدة الشعبية التي شاركت بكثافة في عملية الإقتراع وفرض واقعاً شكل مفاجأة للتيار المحافظ على حساب مرشحه في الرئاسة آنذاك "علي أكبر ناطق نوري" وتجاوز حجم الإقتراع لصالح خاتمي حدود العشرين مليون صوت.

خاتمي الذي وصل إلى الرئاسة بخطاب فكري وسياسي متقدم يقوم على مفردات تتمحور حول تعزيز الديموقراطية والحريات العامة والخاصة وحرية الرأي والفكر والتعبير واللامركزية الإدارية والمشاركة الشعبية كانت على نقيض من الخطاب المحافظ الذي كان يحاول تفريغ العملية الديموقراطية والإنتخابية من محتواها لحساب نظرية ثيوقراطية تولى التنظير لها الشيخ "محمد  تقي مصباح يزدي" وترى في ولي الفقيه موقعاً مطلق الصلاحية يعينه الله تعالى ويكشف عنه للجمهور بأساليب مختلفة، وهو صاحب الأمر في تحديد من يتولى منصب رئيس الجمهورية أو أي منصب آخر وما عملية الإقتراع سوى تأييد وتأكيد لرأي وإختيار هذا الولي.

ولمواجهة التحدي الذي أوجده خطاب خاتمي التجديدي والإصلاحي  استنفرت كل القوى المؤلفة للتيار المحافظ بما فيها المؤسسة العسكرية خصوصاً الحرس الثوري والتعبئة ( البسيج ) ومؤسسة الإذاعة والتلفزيون لمواجهة ودرء هذا الخطر الآتي من خارج توقعاتهم ومخططاتهم، فركزت جهودها على إفشال التجربة الإصلاحية وإحباط القاعدة الشعبية المؤيدة لها والتي كانت تضم قوى مؤمنة بالنظام وشرائح سيطر عليها الموقف السلبي ومقاطعة الإنتخابات.

التيار المحافظ خطط ونجح في تحقيق أهدافه لإنتزاع السلطتين التشريعية والتنفيذية من سيطرة الإصلاحيين  مستخدماً ما في يده من سلطات رقابية وأمنية كمجلس صيانة الدستور الذي طالت مقصلته كل النواب الإصلاحيين وحتى الشخصيات الإصلاحية البارزة والسلطة القضائية التي اقترفت مجزرة حقيقة بحق الصحافة الإيرانية وأقفلت مئات الصحف والمجلات في يوم واحد، وحرمت هذا التيار من قناة التواصل الوحيدة مع جمهوره التي كانت متاحة امامه واعتقلت العديد من الصحافيين والمفكرين المؤثرين.

النتيجة الأولى لهذه الإجراءات كانت عزوف القاعدة الشعبية عن المشاركة في الإنتخابات وتراجعها إلى الحد الأدنى الذي يطمح له المحافظون، وبرز ذلك في الإنتخابات البرلمانية عام 2004  مما مهد الطريق لعودة المحافظين للسيطرة على هذا المركز ومهدت الطريق أمام وصول "محمود أحمدي نجاد" في العام التالي 2005 إلى سدة رئاسة الجمهورية على حساب أحد أساطين الثورة والنظام الشيخ "هاشمي رفسنجاني".

إستراتيجية المحافظين في قصر عملية الإقتراع على قاعدتهم وكتلتهم الشعبية التي تشكل أقلية لا تتعدى الخمسة عشر بالمئة من الإيرانيين لم تستمر طويلاً إذ واجهت أول تحد لها في الإنتخابات البلدية الثانية في عهد "أحمدي نجاد" قبل عامين، حيث اضطرت أجهزة وزارة الداخلية لفرض تغيير جزئي في نتائجها بعد أن تمخضت عن هزيمة شقيقة الرئيس بروين أحمدي نجاد وكل مرشحي لائحة الرئيس لصالح مرشحي التيار المحافظ وتحالف علي لاريجاني مع محمد باقر قاليباف، ولاحقاً في تدخل للداخلية أيضاً لفرض نتيجة الإنتخابات البرلمانية في أبريل 2008 لصالح لائحة أحمدي نجاد في طهران على حساب لائحة لاريجاني – قاليباف أيضاً بعد إستبعاد كلي المرشحين الإصلاحيين الذين نافسوا بقوة على المقاعد الثلاثين للعاصمة.

هذه النتائج دقت ناقوس الخطر لدى قيادة التيار المحافظ ومراكز القرار في النظام بوجود إمكانية العودة إلى دائرة الخسارة من جديد، فكان لا بد لها من استجماع ما تملكه من قدرات لرسم نتائج الإنتخابات الرئاسية وفرض التجديد لأحمدي نجاد لضمان سيطرتها على مفاتيح القرار.

وعلى الرغم من تصاعد حدة الإعتراضات على تصرفات وسياسات "أحمدي نجاد" الداخلية خصوصاً الإقتصادية والإدارية والخارجية ووصول الأمور إلى شفير الخطر والمواجهة مع المجتمع الدولي والاقليمي على حساب كل الإنجازات التي استطاعت طهران تحقيقها في السنوات الأخيرة، وقد تبلورت هذه الإعتراضات بعزوف معظم الأحزاب المحافظة ذات الثقل في التيار الجامع لها عن تبني أحمدي نجاد مرشحاً لرئاسة الجمهورية لمرة ثانية  والحديث عن مساع لإيجاد مرشح إجماع لتمثيلها في هذه الإنتخابات.

خطورة المرحلة والإعلان المبكر للرئيس "محمد خاتمي" الدخول في السباق الرئاسي عجل في الكشف عن كلمة السر التي طالما فضل مرشد النظام تأجيلها، فتراجعت الأصوات المعترضة على أحمدي نجاد لتتحول إلى أصوات ومواقف مؤيدة له واعتباره مرشحها الوحيد الذي يمتلك أرجحيه على أي مرشح محافظ آخر، إما لجهة ضمان وقوف المؤسسة العسكرية والأمنية إلى جانبه وإما لجهة وجود طبقة شعبية استطاع كسبها على مدى السنوات الأربعة من رئاسته من خلال إغداق الأموال والمساعدات المباشرة عليها في زياراته إلى الأقاليم الإيرانية، ويشكل الخيار الأفضل لمواجهة شبح عودة خاتمي المدجج هذه المرة بتأييد شعبي قديم ومستجد استنهضته سلبية الممارسات النجــادية والمـــؤسسات الامنـية ـ إضافــة لما تسرب من تفاصيل عن اللقاء الذي جمعه مع مرشد النظام الذي كان صريحاً في رده على استفسار خاتمي حول موقفه من قرار ترشحه حين قال "إذا كنت تسأل عن رأيي كسيد علي خامنئي فإنني أُعارض هذا الترشيح وإذا كان السؤال كوني القائد فإنني على مسافة واحدة من كل المرشحين" فما كان من خاتمي إلا أن أعلن دخوله السابق مباشرة بعد اللقاء، ما يشير إلى الخطورة التي يشكلها استيقاظ المارد الشعبي المؤيد للإصلاحيين.

إنسحاب "خاتمي" لصالح "مير حسين موسوي" على الرغم من كل الإلتباس الذي رافقه كان إنسحاباً مدروساً شكل قاعدة لتقديم موسوي لقاعدة التيار الإصلاحي الشعبية ومحاولة إرباك التيار المحافظ بمرشح إشكالي لا يملكون سلاحاً فاعلاً لمحاربته، ففرض عليهم الإصطفاف خلف أحمدي نجاد والتغاضي عن خلافاتهم خوفاً من الخسارة، ودفع ذلك المرشد الأعلى للتدخل مباشرة وإعلان دعمه لأحمدي نجاد خلال زيارة من خارج السياق لإقليم كردستان المعروف بموقفه السلبي من الحكومة المركزية.

خامنئي اضطر أن يقدم تنازلات متأخرة جداً لكسب الأكثرية السنية التي تشكل النسيج الأثني والديني في كردستان، ففي خطوة تأخرت ثلاثين عاماً أصدر مكرمة بالسماح ببث الآذان السني من التلفزيون المحلي من دون التطرق إلى حقوق هذه الاثنية باللغة والإدارة والمشاركة التي ضمنها الدستور الإيراني في المادتين الخامسة عشر والتاسعة عشر .

وعلى الرغم من كل هذه الخطوات  تشير استطلاعات الرأي أن الأقليات القومية والاثنية تميل بإتجاه المرشح الإصلاحي "مير حسين موسوي" خصوصاً في كردستان وخوزستان ( العرب ) إضافة للقومية الاذرية ( التركية ) التي ينتمي إليها موسوي وكذلك خامنئي، ما قد يفرض على الأخير _وحسب توقعات في الداخل الإيراني_ أن يقوم بزيارة إلى إقليم أذربيجان ومخاطبة سكانه بلغتهم المحلية لقطع الطريق على موسوي.

وفي خطوة أخرى، دفع التيار المحافظ "بمحسن رضائي" القائد الأسبق لحرس الثورة لدخول السباق الرئاسي ليس بهدف الفوز حيث يفتقر للتأييد الشعبي ولكن بهدف اجتذاب الاصوات الرمادية التي لا تؤيد أحمدي نجاد داخل التيار المحافظ وقد تفضل الإقتراع لموسوي لما عرفته عن تجربته خلال توليه منصب رئيس الوزراء.

أما استمرار "مهدي كروبي" الرئيس الأسبق للبرلمان في المعركة الإنتخابية يمكن أن يشكل عاملاً مساعداً لموسوي لإرباك التيار المحافظ، خاصة وأن لكروبي جرأة في التصدي العلني للمخالفات التي تقوم بها المؤسسات التابعة لمرشد النظام العسكري والتعبئة ومجلس صيانة الدستور ورفع مستوى الحديث عن حقوق الاثنيات القومية الدستورية.

في الخلاصة، يمكن القول أن معركة الإنتخابات الرئاسية في إيران وإن كان عنوانها الأبرز التنافس بين قطبين إصلاحي هو "مير حسين موسوي" ومحافظ هو "محمود أحمدي نجاد" ، فهي معركة داخلية بإمتياز لا تنافس فيها على السياسات الخارجية والإستراتيجية الإيرانية على الساحتين الإقليمية والدولية لكونها تتعدى صلاحيات الرئيس أو أي مؤسسة أخرى في النظام وتقع مباشرة في يد مرشد النظام، إلا أن سياق الأحداث يكشف عن معادلة هي أقرب إلى الواقع، قطباها "مير حسين موسوي" من جهة ومرشد النظام "آية الله علي خامنئي" من جهة أخرى، ففي حال إنتصار موسوي ومعه التيار الإصلاحي فإنه سيعيد فرض معادلة جديدة في الداخل إطارها العام إخراج الثورة والنظام الإسلامي من مأزق تحد الوجود والإستمرار والانفتاح على كل الحساسيات السياسية والفكرية والقومية والإجتماعية وتكريس العملية الديمقراطية وتعزيز الحريات العامة والخاصة والتعبير، ويفتح المجال سهلاً أمام مرحلة الحد من إطلاقية صلاحيات مرشد النظام وإستثاره بالقرار والسلطة وإعادة هذا الموقع إلى مكانه الطبيعي تحت سقف الدستور، في حين لو فاز خامنئي فإن التيار الإصلاحي والمؤيدين له سيكون عليهم الإنسحاب من الحياة السياسية لفترة طويلة وإنتظار التغيير من خارجهم وخارج أطر الثورة والنظام والقبول بمرحلة من الحكم المنفرد والمطلق لولي الفقيه وإلغاء كل المؤسسات الدستورية ذات الشكل الديمقراطي ودخول الثورة والإرث الخميني في نفق مظلم ومصير غير واضح المعالم ولا يعرف الوريث فيه، ما يعني أن المنتصر في هذه المعركة ستقع على عاتقه مسؤولية إستمرارية النظام والثورة وموقعهما على الساحتين الداخلية والدولية .

حسن فحص - خبير في الشؤون الإيرانية

font change