بين صنعاء و عدن : تراكم سلبيات الاندماج وغايات سياسية بأبعاد خارجية

بين صنعاء و عدن : تراكم سلبيات الاندماج وغايات سياسية بأبعاد خارجية

[escenic_image id="555613"]

ماذا يدور في اليمن؟ لماذا الآن؟ هل الإنفصال إحتمال واقعي؟

تتالى هذه الأسئلة وغيرها منذ عودة نائب الرئيس اليمني السابق "علي سالم البيض" إلى الأضواء، بعد صمت شبه دائم خلال العقد ونصف العقد الماضيين، تستدعي الإجابة أو الإجابات عن الأسئلة المطروحة عودة إلى الوراء ومن ثم إلقاء نظرة على  مستجدات طرأت على الأوضاع اليمنية خلال السنوات الخمس الماضية.

لقد بات معروفاً أن اليمنيين عقدوا إتفاقاً وحدوياً إندماجياً في شهر نوفمبر ـ تشرين الثاني من العام 1989، وقد شاءوا لهذا العقد أن يتم لحظة إنهيار الحرب الباردة، وفي يوم الجلاء البريطاني عن أراضي جنوب البلاد في العام 1967 بعد إستعمار متواصل دام لأكثر من 128 عاماً. وجرى تنفيذ العقد الوحدوي وسط ضغوط شعبية عارمة ليقع الإندماج بطرفة عين  دون صعوبات تذكر.

والبادي في تلك اللحظة أن الوحدة كانت أشبه بعودة المنازل المنشطرة إلى البيت الأم بعد طول هجرة وغياب قسري، فاليمني في كل المحافظات لم يعرف نفسه عبر التاريخ بغير الصفة اليمنية واليمنيون لم يختلفوا يوماً على هويتهم التاريخية كما حال اللبنانيين الموزعين على هويات واثنيات متناقضة ومتحاربة، أو حال السودانيين الموزعين على اثنيات وطوائف وأديان أو حال البيضان والسودان في موريتانيا، أو حال الطوائف والاثنيات العراقية تحت الإحتلال الأميركي ..الخ.

وكانت خلافات اليمنيين وحروبهم وإنشقاقاتهم عبر تاريخهم الطويل تتم في إطار البيت الواحد، كأن يتبنى طرف الأيديولوجية الماركسية وآخر الإسلام السياسي وثالث نظريات البعث والناصرية والقومية العربية دون أن يفضي هذا التبني إلى الخروج من العباءة اليمنية.

هكذا تمت الوحدة اليمنية بتلقائية مذهلة وكان يومها من أيام الفرح التاريخي في هذا البلد. وكان على أطراف العقد أن يستفيدوا من هذا الشعور الوحدوي العارم ومن مباركة الجامعة العربية والمؤسسات الدولية لوحدتهم، وأن يطبقوا خلال شهور بنود العقد الذي لم شملهم. فبادروا إلى تشكيل حكومة مركزية، وألغوا العملة الجنوبية ووحدوا التمثيل الدبلوماسي وشكلوا برلماناً واحداً وأطلقوا حرية الصحافة والأحزاب وضربوا موعداً لإنتخابات برلمانية جديدة.... وتقاسموا الدولة بنسبة خمسين بالمئة لكل طرف فكان لكل وزير صنعاني نائباً عدنياً والعكس.

ظهرت بوادر الخلاف الأولى بين المتعاقدين في العام الوحدوي الأول وكانت متصلة بمشاكل إجرائية ناجمة عن الإندماج في مؤسسات الدولة الواحدة. علماً بأن هذه المشاكل كانت متوقعة بسبب طبيعة الدولتين السابقتين فالأولى كانت ماركسية شاملة وتمثل رب العمل الوحيد للسكان، والثانية كانت شبه ليبرالية تعيل قسماً مهماً من الكادرات اليمنية، وكذلك الأمر بالنسبة للجيشين والشرطة والأمن، بيد أن الخلافات كانت ومازالت تحت السيطرة إلى أن طرأ تطور لم يكن بالحسبان، فقد إجتاح الرئيس العراقي السابق "صدام حسين" الكويت، وقلب شؤون المنطقة العربية رأساً على عقب. وبما أن الرئيس "علي عبد الله صالح" كان قبل الوحدة عضواً في مجلس التعاون العربي الذي يضم مصر والعراق واليمن والأردن، فقد تعرضت بلاده لعقاب جماعي أدى إلى تهجير حوالي مليون يمني من الخليج وبالتالي حرمان اليمن من عائدات تقدر بأكثر من ثلاث مليارات دولار، فضلاً عن كلفة إعادة دمج المهجرين في سوق العمل المحلي ومعهم حوالي مليون موظف جنوبي بين إداريين وعسكريين ومتقاعدين، علماً بأن الدولة الجنوبية جاءت إلى الوحدة مفلسة بعد إنقطاع المساعدات السوفييتية في العام 1989 وقد كانت مصدر الدولة الإقتصادي شبه الوحيد. ولم يقتصر العقاب الخليجي على هذا الجانب فحسب بل إمتد إلى تمويل المحبطين الجنوبيين و الراغبين منهم بالإنفصال والعودة إلى الوراء.

كان على الأطراف اليمنية المتعاقدة أن ترد على التحدي الجديد بطريقة جذرية فإقترح الرئيس "علي عبد الله صالح" ونائبه "علي سالم البيض" دمج الحزبين المركزيين: المؤتمر الشعبي العام والحزب الإشتراكي كي يسبح الجميع في مياه يمنية واحدة، بيد أن جناحاً واسعاً في الحزب الإشتراكي عارض الدمج وكان هذا الفريق مؤلفاً بأكثريته الساحقة من شماليين احترفوا القتال والنضال ضد الحكم في صنعاء، وافترضوا أن الدمج يحرمهم من موقع تقليدي للدفاع عن مصالحهم، وقد برروا رفضهم  بوجوب الحفاظ على التعددية الحزبية مفترضين أن الدمج يلحق الأذى بهذا المنجز الوحدوي.

ومع تعذر الرد الجذري على صعوبات الإندماج المقيمة والطارئة فقد المتعاقدون السيطرة على  الصعوبات القائمة  واتجهوا نحو حل الأزمة بوسائل غير سياسية حيث أن طرفاً يريد الإنفصال متذرعاً بصعوبات الإندماج في أجهزة الدولة وسوق العمل، وطرفاً آخر يريد الوحدة مفترضاً أن الإنفصال يطيح بالبلاد كلها ويلقي باليمنيين في هاوية سحيقة لا قرار لها.

وذلك إلى أن وقعت حرب العام 1994، التي تخللها إعلان السيد "علي سالم البيض" حكومة إنفصالية من المكلا في حضرموت مسقط رأسه بيد أنه لم يتمكن من الدفاع عن هذا الخيار لأكثر من يومين فقد إجتاحت القوات العسكرية الوحدوية مواقع الإنفصاليين ووضعت حداً سريعاً لحركتهم الإنشطارية.

كان على التيار الوحدوي المنتصر في الحرب أن يخوض سباقاً مع الوقت للحصول على موارد إقتصادية جديدة من أجل تسديد أكلاف الحرب (حوالي عشرة مليار دولار) وأكلاف المهجرين بفعل حرب الخليج الأولى وأكلاف دمج الدولة الجنوبية المفلسة والتي كانت مبدئياً مُكلفة بإعالة أكثر من مليون يمني كما أشرنا من قبل، لكن أعداء الوحدة في الخارج  والداخل كانوا يريدون لليمن شيئا آخر.

فقد واجهت الدولة  بعد شهور من إنتصارها على الإنفصال حرباً جديدة شنتها هذه المرة أريتريا على أرخبيل حنيش اليمني وكان على الطرف اليمني أن يخوض معركة دولية دامت لأكثر من خمس سنوات من أجل إسترجاع الأرخبيل بالوسائل السلمية. وكان على هذا التيار أيضا أن يواصل تخطيط الحدود مع سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية حتى يتيح لليمن الإفادة من مواردها في ظل القانون الدولي، وقد استغرقت هذه العملية نصف عقد ثمين وانتهت في العام 2000، ليبدأ بعد عام واحد هجوم أمريكي غير مسبوق على الشرق الأوسط أثر أحداث أيلول ـ سبتمبر2001، وكان اليمن مصنفاً بين الدول المرشحة للغزو الأمريكي قبل أن يستدرك الرئيس علي عبد الله صالح الموقف ويعرب صراحة عن تعاونه مع واشنطن في مكافحة الإرهاب الدولي خصوصاً بعد أن اختارت "القاعدة" بلاده مسرحاً بارزاً لعملياتها العسكرية عبر تدمير البارجة الحربية الأمريكية "كول" في عدن والبارجة النفطية الفرنسية "ليمبورج" على شواطئ حضرموت.

وما أن نجا اليمن من "الفوضى" الأمريكية "الخلاقة" حتى واجه تمرداً مذهبياً مسلحاً في صعده رفع أصحابه شعارات إيرانية صريحة (الموت لأمريكا الموت لإسرائيل) على بعد آلاف الكيلومترات من الجبهة مع إسرائيل والإحتلال الأمريكي للعراق علماً أن المتمردين ما عرفوا يوماً بوجودهم العسكري على الجبهتين، وكان واضحاً أنهم يستدرجون تأييداً من إيران وليبيا (أكد العقيد القذافي أنه يحتفظ برابطة هاشمية مع الحوثيين) في منطقة حدودية مع المملكة العربية السعودية حيث يعمل المتمردون في بيئة سياسية ومذهبية تعرضت لهزيمة معروفة في الصراع، بين الجمهوريين والملكيين في سبعينات القرن الماضي وقد اختاروا لحظة التمرد في وقت تعاظمت فيه الإصطفافات العربية ـ العربية وتحولت فيه طهران إلى لاعب مهم في العالم العربي ناهيك عن أن التمرد تزامن مع إنخراط يمني متزايد في مجلس التعاون لدول الخليج العربي.

أدت جولات القتال المتعاقبة في صعدة إلى خسائر يمنية باهظة على كل صعيد وقد استهلكت فوائض الأموال المتراكمة جراء إرتفاع أسعار النفط والتي كان يمكن أن تبذل في  الأعمال التأسيسية للبنية التحتية في المحافظات الشرقية والجنوبية ولعل ضررها الأكبر تمثل في اغتنام التيار الإنفصالي الفرصة لتصعيد أنشطته مستفيداً من أخطاء أساسية إرتُكبت في معالجة مشكلة الأراضي الموروثة عن الدولة الماركسية السابقة ومن إحتياطي الموظفين والجنود والضباط الذين استقالوا أو سرحوا من الخدمة منذ حرب العام 1994، والذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف. أضف إلى ذلك تشديد إئتلاف أحزاب المعارضة الرسمية ضغوطها على الحكومة مستفيدة من أحداث صعدة ومن الحركة المطلبية الجنوبية. وإذا أضفنا إلى هذا الكوكتيل من الحركات المتنوعة المشارب أنشطة القاعدة التي لم تتوقف منذ مطلع الألفية تكون الخريطة السياسية المتوترة في هذا البلد قد اكتملت ملامحها فجاءت الأزمة الإقتصادية العالمية لتميط اللثام عنها ولتضعها على صدارة المسرح.

في هذا الوقت قرر السيد علي سالم البيض إستئناف نشاطه الإنفصالي مستفيداً من الخلاف اليمني القطري حول قمة غزة ومن القوة الإعلامية القطرية الضاربة ومستفيداً أيضا من "الفوضى الخلاقة" المنتشرة في منطقة باب المندب حيث تتطلع بعض القوى الكبرى نحو الضفة العدنية لهذا المضيق الذي تتركز في ضفته المقابلة قاعدة عسكرية فرنسية هي الأكبر في أفريقيا وتستضيف حامية أمريكية منذ أن أعلن جورج بوش حربه الشهيرة على الإرهاب.

على الرغم من تعدد مصادر التوتر في الحالة اليمنية فإن الدولة مازلت اللاعب المركزي والوحيد الذي يمكن الرهان عليه في هذا البلد ذلك أن مشاريع الإنشقاق في صعدة وبعض نواحي الجنوب تحمل ردوداً موضعية لفئات ضئيلة من السكان ولا تخاطب حاجة الأكثرية العظمى من اليمنيين ناهيك عن أن الإنشقاقيين في الجهتين لا تجمعهما مصالح واحدة ولا رؤية واحدة  ولا إرتباطات خارجية واحدة. فالتمرد في صعدة لا يرفع مطالب إقتصادية ويطمح إلى إستعادة الحكم الامامي في حين يطرح  الطرف الثاني مطالب إقتصادية للوصول إلى أهداف إنفصالية، أما القاعدة فهي لاعب خارجي عابر، لا يعول عليه في الحسابات السياسية اليمنية، وتبقى أحزاب اللقاء المشترك تمثل المعارضة فهي تتمتع بتمثيل معتبر في الشارع اليمني وتمارس معارضتها على حدود الدولة وتقوم بمناورات تكتيكية قريبة من المتمردين في الجهتين لكسب العطف وللضغط على الحكومة لكنها لا تخترق سقف الوحدة ولا تقطع مع الدولة ولعلها تفترض أنها مرشحة للعب دور أكبر عندما يفتتح بازار الحلول للمشاكل المذكورة.

خلاصة القول أن الحركات الإنشقاقية في اليمن ليست حركات مطلبية نقابية أو إصلاحية سياسية فهي تسعى للإفادة من الظروف الإقتصادية اليمنية الصعبة والتبدل في العلاقات السياسية العربية والفوضى الدولية حول باب المندب لتحقيق غايات سياسية إنفصالية وهذا ما تدركه الدولة المركزية بوضوح تم التعبير عنه بالعرض العسكري الضخم وغير المسبوق بمناسبة العيد الوطني التاسع عشر وكأن الرئيس اليمني يريد تذكير المعنيين بالشعار الشهير: الوحدة أو الموت.

فيصل جلول - باحث في الشؤون اليمنية

font change