توني بلير- رئيس الوزراء البريطاني الأسبق

توني بلير- رئيس الوزراء البريطاني الأسبق

[escenic_image id="554926"]

فيما يتعلق بالشؤون الدولية، كان "توني بلير" دوماً رجلاً يجمع بين الإتجاه الليبرالي والإتجاه المحافظ في آن واحد. فقد كان ليبرالياً في مقاربته الخاصة بنشر الديمقراطية في حلف الناتو وتوسيع نطاق الإتحاد الأوروبي ولدوره في حروب البلقان ومعاقبة الإستبداد في العراق وأفغانستان. وكان محافظاً من جهة أخرى في المنطقة الأوروبية-الأطلنطية، فلم يُدافع بنفس القوة عن القيم الغربية التي كانت سبب الفوز في الحرب الباردة. ولهذا السبب، فإن السيد بلير يعتبر أن ويليام غلادستون (الذي كان ليبرالياً) وونستون تشرشل (الذي كان محافظاً) هما مصدر إلهامه الأول. وهذا هو ما يطلق عليه التوافق السياسي.

عقد بلير

سواء راق لنا ذلك أم لا، فإن السنوات العشر لتوني بلير كانت بلا شك وثيقة الصلة بالعلاقات الدولية المعاصرة. فعندما تولى بلير السلطة في عام 1997 -بعد ثلاث سنوات من توليه قيادة حزب العمل- كانت أوروبا لم تفُق بعد من كابوس حرب البوسنة ووجدت نفسها في نفس الوقت في مواجهة مع نقاط ضعفها العسكرية وتلك المتعلقة بقدرتها على إتخاذ القرار. لقد كانت أوروبا تنظر إلى كوسوفو بإعتبارها قنبلة موقوتة تمثل جزءاً من سيناريو متدهور لايحتمل مزيداً من الأخطاء. وكانت حينها تراقب جمهورية التشيك والمجر وبولندا بينما تتلقى الدعوات من الناتو في عام 1999، في الوقت الذي كان فيه بيل كلينتون بصدد تولي الحكم لفترة رئاسة ثانية. ولكن هل إنتهى الأمر عند هذا الحد؟ ليس بهذه السرعة. فقد كان صدام حسين في بداية عهده يتحدي عمليات التفتيش من جانب الأمم المتحدة، وكانت الهند وباكستان تحتفلان بالذكرى الخمسين لإستقلالهما عن الإمبراطورية البريطانية، بينما كان بلير بصدد تأسيس البرلمان الإسكتلندي، واضعاً حداً لقرنين وتسعين عاماً من هيمنة ويستمينستر. وفي نهاية عهده شهدنا جميعا كارثة 9/11 والعمليات العسكرية في أفغانستان والعراق وكذلك الهجمات الإرهابية التي وقعت في لندن ومدريد، وإلى حد ما كانت كل هذه الوقائع ترمز إلى عصر توني بلير وأصبح بعضها ذا أهمية خاصة بالنسبة لميراثه الشخصي.

الإطار العام لسياسة بلير الخارجية

لقد كانت أهم سمة إتسمت بها السياسة الخارجية على يد بلير هي ذلك المنظور الأخلاقي والطابع الحماسي الذي إتسم بها، والذي لا يرتبط بإستخدام القوة العسكرية فحسب ولكنه يرتبط أيضاً بالنمط الغربي في التعامل مع الإرهاب. ولقد تمكن وزير خارجيته الأول روبين كوك من تبين هذا المعلم الدقيق في سياسة بلير عقب النصر الإنتخابي الذي تحقق في عام 1997 مباشرة، مما أدى إلى إستعادة الإتجاه الدولي لغلادستون والإنتهاء إلى الواقعية السياسية المتحفظة التي كانت تدعمها تاتشر وميجور. وإذا كانت هذه القطيعة مع الماضي قد تم التعويل عليها من خلال شعار "حزب عمل جديد = بريطانيا جديدة" فإن التأثير الواضح الناتج عن الإتجاه الليبرالي للقرن التاسع عشر سوف يغير تماماً من الشفرة الوراثية الخاصة بحزب العمل فيما يتعلق بالشؤون الدولية منذ تلك اللحظة فصاعداً.

من الضروري أن نتذكر أن الأجندة الدولية لحزب العمل في السبعينيات والثمانينيات كانت متأثرة تأثراً كبيراً بأقصى اليسار الذي دافع عن إنسحاب بريطانيا من المجموعة الأوروبية، وعارض مراراً القواعد العسكرية الأمريكية في بريطانيا. بعبارة أخرى، كان حزب العمل القديم معادياً لأوروبا وأمريكا ومعارضاً لإستخدام القوة. وكان هذا الإطار الأيديولوجي مصب إهتمام المحيط الداخلي لزعيم حزب العمل جون سميث، والذي ضم توني بلير وجوردون براون وبيتر ماندلسون وجيوف هون منذ منتصف التسعينيات. وفي ظل هذه القطيعة الأيدلوجية ظهر البعد الأخلاقي لكوك. وهذا هو سبب دخول الحكومة البريطانية في سبعة صراعات، وهو شيء لم يكن متوقعاً منذ عدة سنوات: العراق (1998) وكوسوفو (1999) وتيمور الشرقية (1999) وسيراليون (2000) وأفغانستان (2001) وجمهورية الكونغو الديمقراطية (2003) والعراق (2003).

وكانت الحجج واضحة: الدفاع عن حقوق الإنسان والسيادة الأخلاقية الغربية على الطغاة والخير (الذي يمثله الغرب) مقابل الشر (بعض الآخرين).  

وكان الهدف الأول من هذه الإستراتيجية الدولية إضفاء الطابع الأوروبي على حزب العمل، أو بعبارة أخرى إيقاف المحافظين من ناحية، والإنسلاخ عن "حزب العمل القديم" بإعطاء رؤية جديدة في عام 1997 من ناحية أخرى، وذلك لمنح بريطانيا في أوروبا القيادة التي تحتاج إليها كل من بريطانيا وأوروبا. وكان الهدف الثاني إقامة خط تواصل لسياسة بريطانيا الخارجية على صعيد العلاقات الثنائية بينها وبين الولايات المتحدة. صحيح أن هذه العلاقة لم تنقطع في عهد توني بلير، لكنه من الصحيح أيضاً أن حزب العمل التقليدي لم يعتبر أبداً تلك العلاقات بمثابة صداقة ينبغي الحرص عليها. وبذلك فإن بلير لم يعط بعداً دولياً لمشروع إصلاح حزبه السياسي فحسب، ولكنه إتبع أيضاً نفس الإستراتيجية التي أظهرت للعالم كيف أن العلاقة الخاصة إستطاعت أن تؤثر في توجهات الزعماء أمثال تشرشل أو تاتشر. فأثناء هذا الوقت، كانت هناك أهمية خاصة للدور الذي لعبه الديمقراطيون الجدد في عهد بيل كلينتون في إعداد إستراتيجية حزب العمل الجديد والتخطيط لها.

بعبارة أخرى، حتى إذا كان إدوارد هيث رئيس الوزراء قد شارك في عضوية المجموعة الأوروبية – والذي كان قد عرض العلاقة بين الإنجليز والأمريكيين للخطر آنذاك؛ وإذا كانت مارجريت تاتشر مثلت رمزاً لهذه العلاقة الخاصة؛ والتي كانت قد عرضت علاقة الإنجليز بأوروبا للخطر آنذاك؛ فإن بلير كان أول رئيس بريطاني إمتلك الرغبة الفعلية في إعطاء كل من أوروبا والولايات المتحدة نفس القدر من الأهمية على أجندة الخارجية البريطانية دون المخاطرة بأي من الساحتين السياسيتين. وترجم بلير تلك الرغبة إلى بيان رسمي سياسي وإستراتيجية قومية. أما كونه حقق هذه الأهداف من عدمه، فذلك أمر آخر.

ومن بين المفاهيم الهامة التي تمكننا من فهم عهد بلير، مفهوم "جسر الأطلسي". فقد كان بلير يؤمن بأنه يمكن حل الأزمة من خلال الوسائل متعددة الأطراف لكنه كان يرى أهمية إستخدام القوة إذا شكلت التهديدات خطراً على الأمن الدولي، ومن ثم أسس "عقيدة بلير حول المجتمع الدولي" (1999) بمساعدة العلماء أمثال لورانس فريمان وروبرت كوبر. ووفقاً لهذه العقيدة، ينبغي أن تفترض سياسة الخارجية البريطانية الجديدة أن "أعمال الإبادة الجماعية لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال مجرد شأن داخلي"؛ ولعل هذا هو السبب وراء تحول كوسوفو إلى قضية أمن دولي، وأن أي حكومة تنتهك حقوق الإنسان لابد أن تفقد شرعيتها في المجتمع الدولي. وينبغي علينا أن نتذكر أنه بحلول ذلك الوقت، بدأ حلف الناتو عمليته العسكرية في كوسوفو ووافقت أوروبا والإدارة الأمريكية على هذا الأمر لأن بلير كرس إرادته السياسية لإقامة هذا الجسر.

لكن الأزمة العراقية شهدت إنقسامات قوية بين الأوروبيين ودول المحيط الأطلسي أثناء عملية إتخاذ قرار بشأن إستخدام القوة ضد صدام حسين والتحرك تحت مظلة مجلس الأمن وحده. ومسألة تحديد من يقع عليه اللوم لا تثير الإهتمام كثيراً، لكنه من الأنسب أن ندرك شيئين هامين: أولهما أن بلير لم يكن قادراً على تحقيق موقف موحد يتسم بالقوة بين دول المحيط الأطلسي بشأن تغيير النظام في العراق أو نتيجة لتهديدات أسلحة الدمار الشامل. وحتى إذا كان النظام العراقي قد اعتُبر تهديداً للأمن الدولي، فإن هذه الحجج ليست كافية لبناء مجتمع أوروبي أطلسي قوي يتمتع بالشرعية كما الحال في كوسوفو، وذلك لوضع حد لهذا النظام. وثانياً، حاول بلير إستصدار قرار ثان معبر بشكل أكبر من مجلس الأمن، لكنه علم أن الصين وروسيا وفرنسا سوف تستخدم حق الفيتو على أية حال. إذن المشكلة تتمثل في سبب إحجام هذه الدول عن إستخدام القوة من أجل الخير. إن هذا يناسب تماماً سياسياً مثل بلير الذي دائماً ما كان يعتبر تهديدات دول الشر وأسلحة الدمار الشامل وإنتهاكات حقوق الإنسان ومساندة الإرهاب بمثابة مبررات كافية للمضي قدماً نحو تشكيل تحالف من تلك الدول التي تريد أن تتحرك من أجل الخير ودحراً للشر. ونطلق على مثل هذا التحالف الإلتحام السياسي، ولكن هذا الإلتحام له مخاطره.

وعلاوة على ذلك، ظهر الصراع على القوة المحورية بين أوروبا والولايات المتحدة عندما أقامت واشنطن شراكات جديدة وتحالفات إقليمية ديناميكية مع قوى أخرى مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية وأندونيسيا وإستراليا والبرازيل وجنوب أفريقيا والمكسيك وباكستان وتركيا والصين وروسيا والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. فبالنسبة لبريطانيا وبلير، فإن فقدان لندن لمكانتها في المجتمع الدولي -التي أهلتها لها تلك العلاقة الخاصة- معناه تقليل فرص أن تحظى بريطانيا بدور في الحقبة الحالية. وذلك هو سبب عدم قيام بلير بإتخاذ قرار غير الذي إتخذه أثناء الأزمة العراقية، وهذا ما نطلق عليه منع التدهور.

وعلى صعيد مواز، كان بلير يفضل دائماً حل "دولتين لشعبين" كأفضل الحلول لتنفيذ عملية السلام في الشرق الأوسط. كما كان يعتبر أن عملية السلام في الشرق الأوسط تمثل مشكلة رئيسية في مجال مكافحة الإرهاب، وحاول أن يستخدم نفوذه للتأثير على الإدارات الأميركية المختلفة في هذا الشأن. وقد كانت هذه إحدى الأوراق المطروحة على الطاولة خلال عملية إتخاذ قرار الحرب على العراق، حيث كانت هناك محاوله لدفع واشنطن إلى الدخول في مفاوضات بإعتبارها أداة للحد من آثار الحرب على العراق. و لكن كما نعلم فإن هذه المحاولة، التي إقترحتها اللجنة الرباعية في عام 2002، باءت بالفشل لأن بوش رفض التفاوض مع عرفات بالرغم من أنه عقد إجتماعاً بين عباس وشارون تحت رعايته، و لكن بدون أن يخطر لندن مسبقاً بذلك. وهذا دليل على عدم وجود علاقة خاصة بين واشنطن ولندن.

و قد تم تعيين بلير كممثل خاص للجنة الرباعية مباشرة بعد إستقالته من منصبه كرئيس وزراء بريطانيا، في نفس الوقت الذي إستضاف فيه الأميركيين أكبر مؤتمر في التاريخ لمناقشة كيفية تنفيذ عملية السلام، و الذي عقد في مدينة أنابوليس في عام 2007.

فترة ولاية ثالثة غير مسبوقة

 يعد الفوز الثالث لتوني بلير في الإنتخابات في عام 2005، واحداً من الإنجازات القياسية التي حققها طوال تاريخه السياسي. فلم يسبق في تاريخ حزب العمال البريطاني أن فاز مرشح للحزب ثلاث مرات على التوالي في الإنتخابات العامة. وقد كان بلير مستعداً مع كل الأضرار السياسية التي هزت صورته بسبب الحرب على العراق -وبعد ما يقرب من عشر سنوات في داونينغ ستريت- لمواصلة دوره كقائد سياسي. ولكن ثلاثة أحداث رئيسية وقعت منذ ذلك الحين، أدت إلى تغيير الخريطة السياسية.

وقد كانت تفجيرات لندن هي أولى هذه الحوادث، فبالرغم من أن موجة الإرهاب قد وصلت إلى مدريد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أنها لم تبلغ لندن إلا بعد حرب العراق، كنتيجة مباشرة لمشاركة بريطانيا في الحرب. و لكن بلير تمكن من التعامل مع هذا الحدث المريع بقوة كافية إنعكست في تزايد شعبيته وفقاً لإستطلاعات الرأي التي تم إجراؤها في بريطانيا.

ويتمثل الحدث الثاني في رئاسة بريطانيا للإتحاد الأوروبي، فقد كان الجميع يعتبرون أن هذا الهدف الإستراتيجي لمجلس الوزراء بأكمله يعتبر الفرصة الأخيرة أمام بلير للتأثير على الإتحاد الأوروبي من القمة ومراجعة ميزانية الإتحاد، خاصة تلك المتعلقة بمساحة الأراضي الزراعية (والتي تشكل نحو 50 ٪ من إجمالي الميزانية)، وإستخدام نهج يتسم بالمزيد من الليبرالية في التعامل مع مؤسسات الرعاية الإجتماعية، والتي تحظى بأهمية بالغة في جميع الدول الأوروبية. ولأن التوقعات كانت كبيرة، فقد جاءت الإنجازات مخيبة للآمال. وأقصى ما يمكننا أن نقوله في هذا الشأن هو أن بريطانيا قد أثارت من جديد جدلاً كبيراً في أوروبا إلا أنها لم تتمكن من إنهائه بنجاح.

وكان ثالث هذه الحوادث هو القيادة الجديدة لحزب المحافظين، والتي تعد الرابعة في السنوات التي قضاها بلير في منصبه. فقد أعطى الرئيس الشاب الجديد لحزب المحافظين، دايفيد كاميرون (ومن أسمائه أيضاً "دايفيد باليمرون و"تونى بلير")، أملاً جديداً لليمينين في إمكانية الفوز على حزب العمال. و يتمتع كاميرون ببعض السمات التي يتمتع بها بلير، والتي يفسرها البعض على أنها إشارة على الهزيمة الوشيكة لرئيس الوزراء الحالي "غوردون براون" الذي يعد سياسياً ذا نمط مختلف عن بلير، حيث يوضح التحليل الدقيق أنه منذ قدوم براون لداونينغ ستريت في عام 2007، وكاميرون تزداد شعبيته في إستطلاعات الرأي. وبالرغم من أن هذه قد تكون بداية النهاية لحزب العمال الجديد، إلا أنها حتماً ليست نهاية توني بلير الذي أصبحت حياته المهنية في عالم  السياسة أكثر رحابة  من الحزب السياسي الذي ينتمي إليه.

بيرناردو بيرز دي ليما - باحث في المعهد البرتغالي للعلاقات الدولية ومؤلف كتاب "بلير والأخلاق والسلطة".

font change