تجاوز المعوقات و النظر إلى المكاسب

تجاوز المعوقات و النظر إلى المكاسب

[escenic_image id="554988"]

بدأت رؤية التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الخليجي، حينما أقرت الاتفاقية الاقتصادية الموحدة في سنة 1982، والتي أتبعت بقرارات أخرى تهدف لقيام سوق مشتركة واتحاد جمركي، ومن ثم اتحاد نقدي ليكون انطلاقته في الأول من يناير 2010 م، ومع تباين المواقف حول الوفاء بهذا التاريخ من بعض دول الخليج، لكن الأمين العام للمجلس يتوقع أن تكون الانطلاقة في موعدها، وأن تحسب لانجازات عهده كأمين عام قبل أن يغادر منصبه.

فالمكون الرئيسي لاقتصاديات دول الخليج هو النفط والذي يشكل 85% من إيرادات موازنات دول الخليج، ودول الخليج تتربع على مصدر ومورد إنتاج الطاقة في العالم , لكنها كما لا يخفى على أحد أنها تتأثر ولا تؤثر في الاقتصاد العالمي !! فحينما بلغ سعر البترول واحدة من أعلى مستوياته  ليلامس 147 دولار للبرميل، كانت هذه الدول متخمة بالسيولة النقدية وفوائض موازناتها، وبين ليلة وضحاها هوى هذا السعر إلى القاع ،وبدأت دول الخليج تشكو عجز موازناتها، وبعضها أفصح عن وجود أزمة مالية والأخر كابر حتى بدأت الآثار تتبدى يوماً بعد يوم.

الوحدة النقدية ليست ترفا سياسيا ولا تقليدا مجردا للغرب، بل هي إستراتيجية بعيدة النظر تحمل في طياتها منافع ومصالح سياسية واقتصادية عظيمة، بعظم المخاطر والتضحيات المتحقق والمحتمل وقوعها وارتفاع الثمن مقابل ارتفاع المُثمن.

فالمثال الأوروبي حري أن يتبع في إصرارهم على تحقيق ما يريدون بالرغم من فشلهم مرات ومرات، ومع هذا لم تتوقف محاولات التعاون النقدي بين الدول الأوروبية فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بدءا  بإنشاء اتحاد المدفوعات الأوروبي عام 1950 وبعد تكوين السوق الأوروبية المشتركة بموجب معاهدة روما سنة 1957  ، هذه السوق عرفت فيما بعد باسم الجماعة الاقتصادية الأوروبية وتركزت جهود التعاون النقدي من اجل مواجهة أزمات اقتصادية مختلفة ,مثل اختلال موازين المدفوعات ،زيادة مستويات، التضخم، الركود الاقتصادي، زيادة نسب البطالة ، تدهور وضع الدولار كعملة الاحتياط الدولية ثم وقف تحويله الى ذهب.

وقد تطورت محاولات التعاون النقدي من مجرد كونها ترتيبات لمواجهة الأزمات المختلفة، التي تتعرض لها دول الجماعة الأوروبية  لكي تصبح هدف في حد ذاته، وهو تحقيق الوحدة الاقتصادية والنقدية الأوروبية،  أي الهدف الذي حققته معاهدة  ماستريخت في سنة 1992 التي بموجبها أنشئ الاتحاد الأوربي و الذي يجسد التعاون الاقتصادي و النقدي الأوربي.

وعليه تطور النظام النقدي الأوروبي من ما كان يعرف الثعبان النقدي Snack in the Tunnel عام 1972، والذي كان يعنى بتحديد هوامش تذبذب العملات الخاصة بالدول الأعضاء بالنسبة للعملات الأجنبية.

ثم جاء النظام النقدي الأوروبي نظرا لفشل نظام ( الثعبان النقدي ) ،والذي  دخل حيز التطبيق في منتصف مارس 1989 وفقا بهذا النظام يكون لكل عملة من العمولات التي تنتمي إلى التحالف سعرين، أحدهما مركزي و هو الذي يحدد علاقة كل عملة بوحدة النقد الأوروبية و يسمح للعملات بالتذبذب في حدود 2.25% صعودا و هبوطا من هذا السعر ، باستثناء الليرة الإيطالية حيث سمح لها بتذبذب في حدود 6 %صعودا و هبوطا حتى يناير 1990 حيث أخذت بالهوامش الضيقة ، أما السعر المحوري الذي يحدد العلاقة بين كل عملة و العملات الأخرى الداخلة في  التحالف.

بعدها جاء نظام "ديلور" وهو ما تتطلبه تحقيق التكامل النقدي, وهو توحيد عملات كل دول الاتحاد بعملة واحدة، يتم التعامل بهـا بين هذه الأقطـار، و هذه الدرجة العالية من التكامل تتطلب إيجاد بنك مركزي واحد للمنطقة ككل ، بحيث تكون هناك سلطة نقدية واحدة هي التي تحدد السياسة النقدية الواجبة التطبيق في المنطقة .

لهذا السبب أنشأ المجلس الأوروبي ( الذي يضم رؤساء دول و حكومات بلدان الجماعة ) في يونيو 1988 لجنة برئاسة " جاك ديلور " و تضم محافظي البنوك المركزية للدول الأعضاء . و ذلك لوضع الخطوات التي تؤدي إلى قيام الاتحاد الاقتصادي و النقدي، و قد اقترحت هذه المجموعة خطة لتحقيق الوحدة النقدية ووضع التقرير ثلاثة قواعد لهذه الوحدة :

التحويل الشامل للعملات وتكامل البنوك و الأوراق المالية وإلغاء هوامش التذبذبات والمحافظة على المساواة في أسعار الصرف للعملات الأعضاء.

كما أشار التقرير إلى الحاجة الماسة لوجود مؤسسة نقدية أروبية، إذ أن وجود سياسة نقدية واحدة لا يمكن في وجود قرارات مختلفة في عدة بنوك مركزية، و أقترح لهذا النظام النقدي الجديد : النظام النقدي للبنوك المركزية  European System of Central banks"ESCB " وهو المسئول عن تشكيل وتنفيذ السياسات الموجهة من قبل لجنة تابعة للـ "ESCB" وأخيراً توجت هذه المراحل ب "اتفاقية ماسترخت" للتدرج في الوحدة النقدية والتي حددت مراحل إصدار العملة وشروط الانضمام.

وفي مثال آخر، حينما ارتضت أمريكا أن تتحمل عبء الاقتصاديات المنهكة لأوروبا والحلفاء بعد الحرب العالمية، بقبولها معاهدة برتن وود 1944 وتقديمها الدولار ليكون عملة الاحتياط المغطاة بالذهب لم يكن ذلك خاليا من المخاطرة، المتمثلة بانتقال هذه الاقتصاديات المتهالكة من أوروبا إلى أمريكا لتهلك اقتصادها ولم تكن هذه الخطوة الجريئة خالية من التضحيات، فقد ضحت أمريكا بثلاثة أرباع إحتياطاتها من الذهب، وهي التي كانت تملك أعظم احتياطيات ذهبية في العالم، وعلمت أوروبا أن المصلحة الإستراتيجية تتحقق من خلال التجمع في نظام مالي موحد، وأن يكون أعظمهم تضحية أكثرهم فوزا بالغنيمة، فتنادوا بوحدة نقدية تدعم وحدتهم الاقتصادية والسياسية لتكتمل لهم الوحدة.

ولم يخف على ألمانيا مقدار التضحية الاقتصادية والمالية التي ستقدمها وهي تنضم إلى دول شرق أوروبا الهالكة. ولم يغب عن نظر فرنسا مجدها التاريخي ومستعمراتها الآفلة، وهي تتنازل عن عملتها وعن بنكها المركزي ليستقر في قلب ألمانيا عدوها الذي أجرى دماء الفرنسيين أنهارا في الأمس القريب.

إن الوحدة النقدية الخليجية, إذا أُحسنت إدارتُها اقتصاديا وسياسيا، ستحقق عائدا نقديا مجانيا وتمويلاً عميقاً، منخفض التكلفة تتمتع به أي دولة أو تحالف مجموعة دول  تكون عملاتها إحدى عملات الاحتياط العالمية، وتعتمد ضخامة هذه العائدات وعمق ورخص التمويلات، على مدى براعة سياسة التعويم أو إخفاء نسب الربط إلى العملات المرتبط بها في سلة العملات المقترحة.

إن الوحدة النقدية ستعطي السياسة النقدية , الأداة الفاعلة الحقيقية للتعامل مع تذبذبات أسعار النفط، فعند ارتفاع أسعار النفط سترتفع قيمة الدينار/الريال / الدرهم الخليجي، ما يسهل السيطرة على التضخم الداخلي مع إقبال الأسواق المالية العالمية على شراء الدينار / الدرهم / الريال من أجل التحوط والمضاربة والاستثمار، فتتحقق عوائد ضخمة بالإمكان (إذا كانت طفرة الأسعار مؤقتة) الاحتفاظ بها كاحتياطيات تُستدر فوائدها خلال إقبال طفرة النفط وتستخدم لشراء الدينار / الريال / الدرهم الخليجي عند إدبار الطفرة.

إن ارتفاع أسعار النفط وعظم إستراتيجيته المستقبلية هما ما يمكن ان نراه في المستقبل. فقد شاهدنا من قبل كيف يمكن لأسعار النفط أن تصل خلال أشهر، بل أيام، وهذا ما سيكون في المستقبل، وعند حدوثه يجب أن نستغله الاستغلال الأمثل بوجود عملة قد تأسست وأصبح لها كيانها ومصداقيتها، فنكون قد استبقنا الأحداث , كما فعلت أمريكا في عقدين من الزمن بعد "معاهدة برتن وود"  ثم انتهزت بعد ذلك الفرصة. وما تفعله أوروبا الآن ليس ببعيد، فهي تؤسس عملتها متربصة للفرصة,  والفرصة لنا أقرب وأكد بوجود البترول ومستقبله القادم الذي سيرفع قيمة عملتنا الخليجية الموحدة التي يباع البترول بها، فيتسابق المستثمر والمضارب والمتحوط على اقتنائها وتلجأ دول وشعوب فتتبناها للتعامل بها، فتتحقق لنا بذلك احتياطيات وموجودات نقدية لا حد لها.

من المنافع التي ستتحقق،  توفير المرونة لاقتصادياتنا، فتتحمل هذه العملة انخفاض البترول بانخفاض قيمتها، بينما تحقق لشعوبها وسكانها الرفاهية المقترنة بارتفاع أسعار البترول، عن طريق ارتفاع قيمتها وتكون في الحالين هي دافع العالم للتمسك بها، إذا أُديرت إدارة حسنة وكانت التذبذبات في العملة مرنة واعدة بالفائدة.

من المنافع تحفيز وتطوير بنية بنكية مالية متقدمة، تكون مركزاً مالياً عالمياً، يوفر العمق المالي والبيئة المناسبة لتكون دول الخليج , هي دول محور المال والاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط.

محفوظ بن لاحق السعدي - أستاذ جامعي واستشاري ومحلل مالي في المؤسسة العامة القطرية للكهرباء والماء وخبير اقتصادي  قطري.

font change