هل سينجح السياسيون حيث فشل الإقتصاديون؟

هل سينجح السياسيون حيث فشل الإقتصاديون؟

[escenic_image id="555827"]

لكنه عندما سقطت الصين كبقية دول العالم في هوة الركود الاقتصادي الخريف الماضي، أُثيرت الشكوك حول صحة نظرية "اللااقتران". لكن مهلاً، فقد كتب جيم أونيل كبير الاقتصاديين بمؤسسة جولدمان ساكس في مجلة نيوزويك هذا الأسبوع أن اقتصاديات الأسواق الناشئة والتي تتصدرها الصين تجتاز مرحلة الركود العالمي الذي بدأ بالولايات المتحدة على نحو أفضل بكثير من دول العالم المتقدم نتيجة لإرتفاع معدلات الاستهلاك وإنخفاض الديون. وأشار أونيل أن نظرية اللااقتران لم يثبت خطؤها إلى الآن وأنها لا تزال منطبقة وسارية على نحو جيد.

وإذا اعتبرنا المعلومات التي تردنا من بكين صحيحة، فإن أونيل يمكن أن يكون على حق. فوفقاً لأحد تقارير البنك الدولي فإن التباطؤ الاقتصادي للصين سوف يستقر عند أدنى مستوى له بحلول الصيف ونهاية العام بمعدل نمو تبلغ نسبته 6,5% وهو يقل كثيراً عن نسبة التوسع التي بلغت 9% والتي حققها في عام 2008 لكنها تزيد عن المتوسط الإقليمي لشرق آسيا والذي تبلغ نسبته 5,3%. وقد أثنى التقرير على خطة التحفيز الاقتصادي التي أعدتها بكين في نوفمبر والتي بلغت قيمتها 4 تريليون رنمينبي (587 مليار دولار أمريكي) ووصفها التقرير بأنها جاءت في حينها وبمثابة محاولة ناجحة لحماية المحرك الاقتصادي لآسيا من التلكؤ.

كان هذا منذ أسبوعين، بعدها أعلنت بكين تقديراً للنمو خلال الربع الأول من العام بنسبة 6,1%. واستمرت إيرادات الصادرات في الهبوط في مارس ولكن بمعدل أبطئ في حين ارتفع الناتج الصناعي إلى 8,3% بعد أن كان قد سجل 3,8% في أول شهرين من العام. وفي ظل اقتصاد يعرف عنه إرتفاع في معدل المدخرات، يستغل مستهلكو الصين الزيادة الهائلة في القروض البنكية نتيجة لخطة التحفيز. وقد ارتفعت مبيعات السيارات في مارس عن مستوياتها منذ عام بنسبة 10% وتُظهر الأسواق الكبرى للعقارات الحضرية دلائل على الوصول إلى أدنى مستوى تستقر عنده. وعلى النقيض من الأسعار المتقلبة للأسهم، يتزايد مؤشر شنغهاي كومبوسيت بشكل ثابت منذ شهر نوفمبر.

ونتيجة للسيولة الهائلة التي يتسم بها الاقتصاد الصيني – حيث ارتفع مقياس المعروض النقدي M2 (الودائع الادخارية + الودائع تحت الطلب) ليسجل 25,5% الشهر الماضي – حذر البنك المركزي من أنه قد يُضطر إلى ترشيد الائتمان بالرغم من تقديرات البنك الدولي بأن الأسعار الاستهلاكية في الصين من المحتمل أن تظل منخفضة بقية عام 2009.

ويمكن اعتبار الصين بالكاد خارج الهوة. فهي لا تزال تمثل اقتصاداً أساسه التصدير ويعتمد على شهية المستهلكين في العالم المتقدم – حيث يأتي الأمريكيون في المقام الأول – وذلك في الوقت الذي تنكمش فيه التجارة الدولية وتزداد فيه الحمائية. والدولة في حاجة إلى تحقيق نمو تبلغ نسبته 7% على الأقل وذلك للحيلولة دون تزايد معدل البطالة وإبقاء الناس في وظائفهم. ولكن مؤشرات ارتفاع الأسعار في السوق المالية في بكين تشير إلى أن الركود الذي هو أبعد ما يكون عن تعويق عملية المفارقة يمكن أن يؤدي في النهاية إلى الإسراع منها بموازاة التوازن بين الأطراف الدائنة والمدينة التي تعد ضرورية للاستقرار التجاري.   

إن المفارقة  تعني التحول من اقتصاد عالمي أحادي القطبية إلى اقتصاد متعدد الأقطاب بما يصاحبه من تغيرات على مستوى التجارة وتدفقات رأس المال. ومع تطور الأسواق الناشئة على مستوى الثروة ودرجة التعقد تصبح أكثر عرضة للمبادلة التجارية والاستثمار بين بعضها البعض بنفس الدرجة التي تفعل بها ذلك مع العالم المتقدم. وهذه العملية تأخذ مجراها حالياً في أسيا حيث يصل حجم التجارة بين دول الإقليم الواحد إلى مثيلها مع الغرب تقريبا.وفي نهاية الأمر، فإنه مع سحب الدول الأسيوية للاحتياطيات الهائلة من النقد الأجنبي من أجل الوفاء بالاحتياجات المتزايدة للمستهلكين بهذه الدول، فإنه من المأمول أن يتمخض عن ذلك فض لمديونياتها الضخمة في الدين السيادي الأمريكي.

وهذا سيؤدي بدوره إلى دعم المزيد من الادخارات وإلى مستوى أكثر ثباتاً من معدلات الفائدة في الولايات المتحدة. وسوف تؤتي سياسة المفارقة ثمارها الحقيقية عندما تحل شبكة صحية من اللامركزية والاقتصاد العالمي الحر محل شبكة  أخرى متعثرة ومهترأة وتحد من تأثيرها.

وسوف تكون الصين هي مركز هذا الزلزال من التغيرات بإعتبار موقعها كأكبر دائن لأمريكا. ففي لفتة ذكية من روبرت زوليك رئيس البنك الدولي فقد أشار إلى العلاقة الصينية الأمريكية على أنها مجموعة الاثنين وليست مجرد حفنة من الحظ. إن الضوابط الخاصة بالعملات والتي قامت الصين برفع الأخيرة منها في منتصف 2007 وفرت على المستثمرين الصينيين عناء التعرض للمشتقات المالية المسممة التي كانت سائدة في معظم أنحاء العالم المتقدم.وبرغم ارتفاع تكلفة الأسهم الخاصة، فإن البنك المركزي لبكين قام بدفع 3 بليون دولار من أجل الحصول على نصيب في الإستثمار في بنك بلاكستون العملاق عند أعلى مستويات للسوق في مايو عام 2007 وقامت بكين بوضع ما لديها من أموال تقدر بـ 2 تريليون دولار في شكل احتياطيات نقد أجنبي في خزانات الولايات المتحدة.

وقد تنحدر العوائد إلى أدنى مستوياتها التاريخية إلا أن الصين باعتبارها دولة غنية بالنقد وخالية من الديون يمكن أن تتحمل بسهولة حزمة إنعاش جديدة إذا اقتضت الضرورة.ويمكن أن يقال نفس الشيء عن اليابان وألمانيا واللتان تديران فوائض تجارية كافية ومعدلات ادخار عالية.

والآن ننظر إلى ما يتعين على واشنطن والرئيس الأمريكي باراك أوباما التطلع إليه. فمازال من المبكر جداً توقع تقدم ملموس من ملايين الدولارات المتدفقة من جهود الإنقاذ الحكومية وخطط التحفيز ومقترحات الميزانية التي ألقى بها البيت الأبيض على صفحة  الاقتصاد الأمريكي الراكد.

 لقد انخفض حجم المخزونات السلعية لكنها تبقى مرتفعة مقارنة بحجم المبيعات. ويسود الصمت بين المستهلكين الأمريكيين بينما إنخفضت مبيعات التجزئة بنسبة 1.1 % في مارس، متحدية بذلك التوقعات بحدوث تحول عن الانهيارات الدوامية لعام 2008- بينما ينحدر تجار التجزئة حاليا إلى هوة من الإفلاس.وحتى المقترضون الموثوق بزمتهم المالية يعانون من مشكلات في الحصول على قروض بنكية بينما يتطلع المقرضون بشدة إلى إضافة ديون غير عاملة إلى دفاترهم. ومما زاد الطين بلة، فإن سد فراغ تخلفات الدفع في مجال الرهونات العقارية - وهو ما يمثل آخر بقايا ركام الرهونات المنزلية التي زلزلت دعائم الاقتصاد الأمريكي- لا يزال متذبذباً عند معدل قدره 12 %.

ولكن أعماق تلك الأزمة معروفه على الأقل. فمعدل الفائدة الافتراضي على الممتلكات التجارية آخذ في الارتفاع بشكل كبير، وعدد متزايد من الاقتصاديين والمستثمرين يخشون من أن يصبح هذا القطاع هو كارثة الديون المعدومة المقبلة. حيث أنه من المتوقع إدراج نحو 20 مليار دولار هذا العام من أموال الرهون العقارية والتجارية، و هي رهون على كل شيء بدءا من الفنادق و انتهاء بمراكز التسوق، ضمن الديون المعدومة، كما أنه من المتوقع أن يبلغ هذا الرقم مستوى أعلى في خلال عامي 2010 و 2011.

فما الذي ابقي السوق متماسكا حتى الآن؟ لقد خفف الكونجرس من اللوائح التي تشترط على المصارف أن تقوم بتقييم أصولها وفقاً لأسعار السوق وتحديد رأسمالها بناء على ذلك. ونتيجة لذلك، فإن المقرضين سوف يفضلون الاحتفاظ بما يسمى بـ "تركة القروض" في سجلاتهم في انتظار حدوث تحول، و هم بذلك يقبضون على العملية المؤلمة و التعويضية في الوقت ذاته و التي لا تتأتى إلا من خلال القيام بتصفية واسعة النطاق.

وقد ازدادت مخاوف المستثمرين بشأن سوق العقارات التجارية الأمريكية إلى حد أن تتجنب هيئة الإستثمار في أبو ظبي، والتي ربما تكون أكبر صندوق ثروة سيادية في العالم بأصول تقدر بنحو1 تريليون دولار، هذا القطاع للشهور العشرة المقبلة على الأقل، وفقاً لما ذكره أحد مستشاري الإستثمار في واشنطن.

وبالنظر إلى كل هذا القدر من عدم التيقن، فمن المرجح أن يكون اقتصاد الولايات المتحدة ما زال يعانى من أزمته عندما يكون اقتصاد شرق آسيا بقيادة الصين قد بداء ينتعش بالفعل. وهذا من شأنه أن يضمن مصدراً واحداً للطلب على الأقل لاقتصاد ما زال يعانى حتى الآن من ضعف شديد، وهو الوضع الذي يؤمل أن تمنعه المفارقة. و لكن هذا يفترض أن العالم قادر على تجنب مخاطر الحمائية.

كان الأمر شكلا غير مباشراً من الإستغلال التجاري - سياسة الصين بتخفيض قيمة العملة عن طريق بيع عملة رنمينبى مقابل الدولار- مما أبقى أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية منخفضة ورفع الإستهلاك الأمريكي المفرط. والآن وبعد إن إنفجرت الفقاعة الأمريكية، هناك سباق نحو القاع بين الدول التجارية لحماية الصناعة المحلية. وقد أطلقت واشنطن هذه الفوضى بإدخال قانون "اشتر المنتج الأمريكي" ضمن خطتها التحفيزية للاقتصاد وقد حذت حكومات أخرى حذوها. وإذا استمر هذا التيار، فإنه قد يقوض الانتعاش في الصين بينما يطيل من مرحلة الركود في العالم المتقدم.

وحتى قبل أن تضرب أزمة الائتمان العالم، كانت الصين تدعم صادراتها من الصلب والمنسوجات بتخفيض الضرائب مما أجبر منافسيها في شرق آسيا على إتباع نفس الاتجاه. وقد فتحت فرنسا صندوقا لحماية شركاتها من عمليات الاستحواذ الأجنبية وفرضت اندونيسيا قيوداً على المنتجات المستوردة في شكل تراخيص خاصة ورسوم. وتقدم ألمانيا لشركاتها قروضا مخفضة عبر بنوك تستثمر فيها الدولة. ويلاحظ المسئولون التجاريون أيضا ارتفاعا مقلقا في العمليات المتبادلة بين الدول "لمكافحة الإغراق"، بينما تزيد الحكومات المتهمة بدعم المصنعين المحليين من تبني خطة مكافحة الإغراق كأجراء انتقامي.

وقد أعطى أوباما خلال حملته الانتخابية للرئاسة في العام الماضي إشارات متضاربة بشكل عمدي بشأن التجارة في محاولة لاسترضاء المسئولين الماليين المحافظين والنقابات التجارية على حد سواء. وهو الآن يخضع لضغوط كبيرة لإعادة التفاوض على المعاهدات التجارية، مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وفي الشهر الماضي، منعت بكين عرض شركة كوكا كولا بقيمة 2.4 مليار دولار لشراء شركة عصير هيوجوان المحلية لإنتاج المشروبات بينما اشترى المستثمرون الصينيون حصصاً ضخمة في الشركات العالمية مثل عملاق التعدين الأسترالي ريو تينتو.

ويدفع العالم ثمناً باهظاً نتيجة جيل من الرخاء الأميركي. ولكن هناك فرصة في الأزمة، ويمكن لحالة الركود أن تسرع من عملية أقرب إلى الإنشطار الخلوي، يمكن خلالها أن يتعدد مركز الثقل للاقتصاد الدولي. وسوف يكون مؤسفاً لو سمح زعماء العالم لنزعة الحمائية بعرقلة المفارقة بينما تكتسب زخماً.

ستيفن جلين - صحفي مقيم بواشنطن وكاتب كان يغطى شؤون آسيا والشرق الأوسط لصحيفة وول ستريت قبل رجوعه للولايات المتحدة عام 2001، وحالياً يكتب كتاب عن "عسكره السياسة الخارجية الأمريكية".

 

font change