معظم مدخرات الرحيل إلى أوروبا تنتهي مع أصحابها في جوف البحر
[caption id="attachment_55259701" align="aligncenter" width="1628"] يقف المصريون على الشاطئ وهم ينتظرون انتشال الجثث أثناء عملية البحث عن موفقدين في حادث انقلاب قارب بمدينة رشيد الساحلية المصرية في 22 سبتمبر 2016 (غيتي)[/caption]
طرابلس - القاهرة: عبد الستار حتيتة
* ما زال وكلاء الهجرة غير الشرعية يحتفظون بمراكزهم وبشبكة السماسرة التي تتولى جمع الراغبين في ركوب البحر إلى أوروبا.
* تبلغ حدود مصر البرية والبحرية ما يقرب من خمسة آلاف كيلومتر أو أكثر، ويتطلب تأمينها مجهوداً ضخماً.
* وفقاً للتحقيقات فإن من بين المهاجرين غير الشرعيين، من المصريين، هاربين من أحكام قضائية صادرة بحقهم، في جرائم وجنح مختلفة.
* في مصر نحو خمسة ملايين أجنبي، بين لاجئين سوريين ولاجئين من دول الجنوب الأفريقي، إلي جانب السودان وجنوب السودان، بالإضافة إلي كثير من الجنسيات في حالة هجرة غير شرعية
* مصر تأثرت، كغيرها من الدول، بموجات الهجرة غير الشرعية، باعتبارها دولة مقصداً، ومعبراً، وانطلاقاً للهجرة غير الشرعية
[caption id="attachment_55259702" align="aligncenter" width="4128"] جانب من فعاليات رسمية وشعبية ضد الهجرة غير الشرعية في مدينة مرسى مطروح المصرية(المجلة)
[/caption]
عبد المجيد، مصري، من بلدة إدكو المطلة على البحر المتوسط. فلاح يبلغ من العمر 63 عاما، مزارع نخيل، مع أبنائه، بالأجر، ولديه خمسة قراريط في منطقة سبخة لا تصلح للزراعة، وهو أب لخمسة أولاد، وثلاث فتيات. كانت أحواله المالية جيدة حتى عام 2011 حين بدأت ثورات الربيع العربي. ويقول إن مبيعات البلح تراجعت خلال السنوات الخمس الأخيرة لأسباب لا يعرفها، وإن عمله أصبح يدر عليه وعلى أسرته أقل مما يحتاج، خاصة مع موجة الغلاء التي تضرب البلاد.
في 2013 سافر ابنه الأوسط، جمال، البالغ من العمر 23 عاما، للعمل في ليبيا، حين كانت ليبيا تبدو في طريقها للاستقرار. لكن هذا لم يحدث. وهناك تعثرت فرص ابنه في إيجاد عمل في بلاد مضطربة وتتأهب من جديد للاقتتال الأهلي. وإذا عاد لمصر سيتوجه للالتحاق بالخدمة الإلزامية في الجيش. وبعد ذلك لا يضمن عملا له ولا زواجا.
وبعد أن اختفت أخبار جمال، لأكثر من شهرين، وصل منه أول اتصال من إيطاليا. لقد وصل إلى هناك في مركب انطلقت من بلدة زوَّارة في غرب العاصمة الليبية، كانت تضم مصريين وسوريين وأفارقة. والتحق جمال بعمل ثابت في مطعم، وأخذ يرسل لأسرته عدة مئات من الدولارات كل ثلاثة أشهر أو أربعة. ويبدو هذا أمرا مشجعا لأسرته ولأسر كثيرة من جيرانه.
ويقول عبد المجيد، الذي وافق على رواية قصته، دون ذكر اسمه بالكامل، إنه منذ عام 2015 يحاول إرسال أحد أولاده الآخرين، ويدعى سامي، البالغ من العمر عشرين عاما، إلى أوروبا من خلال مراكب الهجرة غير الشرعية التي تخرج أحيانا من شاطئ مجاور لبلدته. ويتعامل مع سماسرة يديرون هذا النوع من النشاط. وباع القراريط الخمسة، لمقاول عقارات، بما يساوي خمسة آلاف دولار، أنفق منها ألفي دولار لسفر ابنه. لكن كل هذه الأموال ضاعت، حين تعرض المركب للغرق داخل البحر أخيرا. بيد أن المحاولات لم تتوقف حتى الآن. نجا ولده سامي. ويقول عبد المجيد: سنحاول مرة أخرى.
ثلاثة أنواع من الهجرة غير الشرعية
ووفقاً لمصادر أمنية، توجد ثلاثة أنواع من الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من مصر في الطريق إلى أوروبا. النوع الأول يخص المصريين. والثاني يتعلق بالسوريين. والثالث يدور حول خليط من الأفارقة والجنسيات العربية الأخرى. ويشترك الجميع في مشكلة تدبير المبالغ المالية الباهظة التي يطلبها سماسرة الهجرة غير الشرعية سواء من شاطئ رشيد أو إدكو، أو عبر الحدود الغربية حيث تنشط عمليات الهجرة المماثلة إلى أوروبا انطلاقا من الشواطئ الليبية التي لا توجد عليها رقابة تذكر.
وتنتهي معظم القصص بخاتمة مأساوية، إذ تضيع معظم مدخرات الرحيل إلى أوروبا، مع أصحابها، في جوف البحر، في مقامرة تبدأ بفكرة وتصطدم بصرخات من فوق مركب يغوص بين الأمواج في عرض البحر.
ويقول عبد المجيد إن نجاة ابنه في حادث غرق المركب، لا يعني أنه نبذ فكرة تسفيره مجدداً، رغم تشديد السلطات المصرية لإجراءات الرقابة على سواحلها وحدودها البرية مع ليبيا.
وما زال وكلاء الهجرة غير الشرعية يحتفظون بمراكزهم وبشبكة السماسرة التي تتولى جمع الراغبين في ركوب البحر إلى أوروبا. وألقت الشرطة المصرية القبض على عدد من سماسرة الهجرة غير الشرعية ممن يتعاملون مع وكلاء لديهم مراكب على السواحل، يتركز معظمها قبالة شواطئ محافظات البحيرة شمال غربي القاهرة، وكفر الشيخ، شمال العاصمة، وعدد أقل من الشواطئ الواقعة في شمال وشمال شرقي البلاد، مثل دمياط وبور سعيد. والسؤال: لماذا يريد الشباب، مثل ابن عبد المجيد، السفر؟ ولماذا يلجأ هؤلاء إلى طريق صعبة للوصول إلى أوروبا؟
يقول المزارع الذي عاش مع النخيل عقوداً طويلة: «أنفق دم قلبي على الابن حتى ينهي تعليمه، ثم يذهب لأداء الخدمة الإلزامية في الجيش، وبعد ذلك يبحث عن عمل ولا يجد. يساعدني في تقليم النخيل بعض الوقت، لكن هذا ليس عمله. أين يذهب؟ لا قدرة مالية لديه لكي يتزوج ويكوّن أسرة. هل أتركه يفسد. يسافر أفضل، والأعمار بيد الله».
وعبَّر الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال تعليق له على غرق مركب أمام شواطئ رشيد في سبتمبر (أيلول) الماضي، عن أسفه وحزنه، قائلا إنه لا يوجد مبرر لذلك، ولا عذر في أن يسقط ضحايا. وتساءل موجهاً حديثه للشباب: لماذا نترك بلدنا؟ هل لا يوجد فيها فرص عمل؟ وقال: والله فيها فرص عمل. وأكد أن بلاده لديها مشروعات تستوعب الشباب ولديها وظائف، وقال إنه من حق الشباب أن نمنحهم الأمل، وأن هناك جهداً كبيراً يبذل لتحقيق التنمية وتوفير العمل.
مساعدة الضحايا
وتبلغ حدود مصر البرية والبحرية ما يقرب من خمسة آلاف كيلومتر أو أكثر، ويتطلب تأمينها مجهوداً ضخماً. وتقضي بنود القانون المصري الذي جرى تغليط مواده أخيرا لكبح جماح القائمين على الهجرة غير الشرعية، عبر هذه الحدود، بعقوبات تصل للسجن المؤبد، والغرامات المالية التي تصل إلى 500 ألف جنيه (نحو 56 ألف دولار)، بحق من يثبت ضلوعه في التهريب أو الانتفاع من الهجرة غير الشرعية.
وتضمن القانون تشكيل لجنة مختصة بمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، وكذلك تشكيل صندوق لمساعدة الضحايا. وفي مدينة إدكو الواقعة بين الإسكندرية ورشيد، أشرف اللواء علاء شوقي، مساعد وزير الداخلية لأمن البحيرة، على عملية توقيف لسائق من بلدة إدكو، متهم بأنه يعمل ضمن شبكة لجمع الأموال من الشبان الراغبين في السفر إلى أوروبا بطريق غير قانونية. كما جرى توقيف سماسرة آخرين بعد أن لوحظ تزايد نشاط الهجرة غير الشرعية انطلاقاً من سواحل رشيد وإدكو، الواقعتين إلى الشرق قليلا من مدينة الإسكندرية.
ووفقا للتحقيقات فإن من بين المهاجرين غير الشرعيين، من المصريين، هاربين من أحكام قضائية صادرة بحقهم، في جرائم وجنح مختلفة. وتبين من تحقيقات النيابة أيضا أن تسفير الشباب من تلك الشواطئ لا يقتصر على أبناء المنطقة، ولكن المنطقة نفسها تعد مركزاً لتجميع الراغبين في الهجرة، سواء كانوا من المصريين أو من العرب والأفارقة. وتستغرق فترة تجميع مائتين أو مائتين وخمسين مهاجراً، من ثلاثة إلى أربعة أسابيع. ويسدد الراغبون في الهجرة نفقات إقامتهم داخل شقق مفروشة أو داخل أحواش معزولة في مزارع النخيل والفاكهة، انتظاراً للحظة الرحيل. وتتعاون شبكة السماسرة في مدينة إدكو مع سمسارة من القاهرة والإسكندرية والبحيرة وعدة محافظات أخرى.
وتعد أكثر المحافظات المصرية تصديراً للمهاجرين غير الشرعيين، وفقاً لتقديرات شبه رسمية، في الدلتا شمالا: الغربية، والشرقية، والدقهلية، والقليوبية، والمنوفية، والبحيرة، وكفر الشيخ. وفي الصعيد جنوباً: الفيوم، وأسيوط، والأقصر.
ومن بين من وصلوا في الشهور الأخيرة إلى مراكز التجميع في نطاق رشيد وإدكو، سودانيون وآخرون من الصومال، وإريتريا، وسوريون، ويمنيون. لكن الأغلبية كانت لمصريين قادمين من محافظات فقيرة في جنوب القاهرة. بالإضافة إلى نحو ثلاثين من منطقتي رشيد وإدكو القريبتين من نقطة الانطلاق. وأحبطت الشرطة المصرية معظم هذه المحاولات، في المدة التي أعقبت كارثة غرق نحو مائتين في مركب أمام سواحل رشيد في سبتمبر (أيلول) الماضي.
تسيير المراكب لم يتوقف
إلا أن مصدراً على علاقة بتجار الهجرة غير الشرعية يعلق قائلا إن تسيير المراكب لم يتوقف، مشيرا إلى أن وكلاء تسفير المهاجرين يغيرون مواقعهم كلما حدثت مشكلة أو إذا زاد وجود رجال الشرطة... «بعد حادثة رشيد، اتجه النشاط إلى منطقة جمصة على شاطئ محافظة كفر الشيخ، وإلى بورسعيد ودمياط». ويضيف أن العرب والأفارقة الذين يسعون إلى الرحيل إلى أوروبا في رحلات الهجرة غير الشرعية، يتم التواصل معهم بمجرد دخولهم إلى البلاد، سواء وصلوا عبر المنافذ الرسمية، أو متسللين عبر الحدود الجنوبية مع السودان.
وفي الأوقات التي يصعب فيها ترتيب عملية التسفير من مراكب عبر البحر، يتم اللجوء إلى البديل، وهو نقل فوج المهاجرين إلى الحدود الغربية، وإدخالهم إلى ليبيا، سواء بالتسلل ليلا من هضبة السلوم أو بالتسلل مع منطقة واحة سيوة المصرية المقابلة لواحة الجغبوب الليبية. ويقول العمدة عبد الكريم ضيف، رئيس مجلس العمد والمشايخ في محافظة مطروح الحدودية: الجيش يبذل مجهوداً كبيراً للحد من أي خرق للحدود مع ليبيا.
وعلى أية حال توجد ظاهرة أخرى في قضية الهجرة غير الشرعية تتعلق بزيادة عدد الأطفال (تحت سن 18 سنة) الذين يجري تسفيرهم دون أن يكون بصحبتهم أي من ذويهم. وهذا أمر منتشر بين المهاجرين المصريين، لأسباب عديدة من بينها محاولة تجنب ذويهم إعادة ترحيل هذه الشريحة العمرية إلى مصر مرة أخرى، في حال وصولهم إلى إحدى الدول الأوروبية.
وتعد بلدة مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، أكثر البلدات المصدرة للمهاجرين المصريين غير الشرعيين، وفقاً لتقديرات محلية، ولهذا عقد فيها قبل أسبوعين لقاء شعبي عن مخاطر هذه الظاهرة بحضور السفيرة نائلة جبر، رئيس اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر. وكانت السفيرة جبر تحدثت في محافل أخرى في مصر عن هذه القضية، وقالت إن الأطفال أقل من 18 سنة أصبحوا يشكلون الأغلبية العظمى لمهاجرينا غير الشرعيين.
وأضافت أن مواجهة مخاطر الهجرة غير الشرعية للشباب والأطفال غير المصحوبين هي مسؤولية قومية لا تستطيع الحكومة أن تحقق النجاح المنشود فيها دون الدعم المجتمعي والمساندة الأهلية.وتابعت قائلة: «إنني لا أنكر الدور الأصيل للدولة في توفير البيئة الحاضنة لطموحات الشباب ومواجهة الظروف والعوامل الطاردة لهم إلى المجهول عبر البحار ومن خلال وعود وهمية من تجار وسماسرة الموت... ولكن يبقى الدعم القادم من أكثر فئات المجتمع حيوية ونشاطا... أقصد الشباب، لتحقيق النجاح ولبناء مستقبل أكثر إشراقاً».
ووفقا للسفيرة جبر، يوجد في مصر نحو خمسة ملايين أجنبي، ما بين لاجئين سوريين ولاجئين من دول الجنوب الأفريقي، إلي جانب السودان وجنوب السودان، بالإضافة إلي العديد من الجنسيات في حالة هجرة غير شرعية.
حدود مصر مع ليبيا والسودان
ويبلغ عدد سكان مصر نحو تسعين مليون نسمة. ولديها حدود طويلة على البحرين الأحمر والمتوسط، بالإضافة إلى حدودها البرية مع ليبيا التي تعاني من ظروف أمنية صعبة، والسودان التي لديها مشاكل تؤثر بالسلب على ضبط الحدود خاصة من ناحية الشمال الغربي. وعلى هذه الأرضية تبذل القاهرة جهوداً مضنية للالتزام بواجباتها الإنسانية والأمنية والدولية فيما يتعلق باللاجئين والمهاجرين، في منطقة تعاني من الاضطرابات والضعف.
[caption id="attachment_55259703" align="aligncenter" width="3392"] لافتات ترفض الهجرة غير الشرعية ضمن جهود الحكومة للحد من الظاهرة [/caption]
ومن بين أهم المناطق الهشة التي تعبر منها قوافل الهجرة غير الشرعية في المناطق الغربية والجنوبية الغربية، على حدود مصر مع كل من ليبيا والسودان، هناك طريق للقادمين من السودان إلى مصر، عبر دنقلة، ثم إلى ليبيا، عبر ممرين، الممر الأول عبر جبل عبد المالك، جنوب شرقي واحة الكفرة، أو عبر طريق واحتي سيوة والجغبوب، وهناك توجد بعض المسالك التي يسميها المهربون «المواريد»، وأشهرها فتحة بودحيوة، وفتحة الربدة.
وبعد عبور هاتين الفتحتين، يتم تجميع بعض هؤلاء المهاجرين في قرية الفرين، شمال بلدة بئر الأشهب، ومنها يتدفقون في سيارات نقل خاصة بالمهربين عبر ممر سيوة الجغبوب حيث ينقسمون إلى قسمين، قسم يتجه نحو نقطة «أجخرة» ومدينة «إجدابيا»، عبر طريق مواز للطريق الصحراوي المعروف بـ«طريق المائتين».
وهؤلاء في الغالب تكون وجهتهم إلى غرب ليبيا، حيث يسهل عبور البحر في مراكب من بلدة زوَّارة إلى أوربا. والقسم الثاني من المهاجرين غير الشرعيين، يسلك «طريق التسعين»، ومنها إلى بلدة العزيزيات، ليسلك منها الطريق الذي يتجه شمالاً إلى مدينة درنة، عن طريق بوابة الحيلة. إلا أن الناشط الشعبي على الحدود، محمود بو عيسى، من قبيلة القناشات، يقول إن عدد المهاجرين من تلك المناطق يتراجع بسبب تكثيف الوجود الأمني على الحدود.
ومن جانبهم يواصل وكلاء التسفير في الداخل المصري وعلى الحدود مع ليبيا، عملهم رغم تغليظ عقوبات الهجرة غير الشرعية في مصر أخيرا. ويشترطون الحصول على مستحقاتهم بالدولار من الجنسيات الأجنبية. وبالجنيه المصري من المسافرين المحليين. ويبدأ تحصيل الأموال على دفعات. الدفعة الأولى، كما يقول أحد السماسرة، تتعلق بنفقات الوجهة التي سوف يركبون منها البحر. وقام هذا السمسار بالإشراف على نقل ثلاثة سودانيين واثنين من الإريتريين، من مدينة أسوان على الحدود المصرية مع السودان، إلى مدينة رشيد. وتقاضى من كل منهم مائة دولار (ما يساوي نحو 1800 جنيه مصري)، نفقات النقل في سيارة أجرة، والطعام والمشروبات على طول الطريق البالغة نحو 800 كيلومتر.
أما الإقامة فتبلغ كلفتها نحو مائة دولار في الأسبوع، حسب نوع المكان ومدى توافر سبل الراحة والأمان فيه. بعض المقار تكون عبارة عن شقق فيها وسائل الترفيه من تلفزيون وتكييف، وغيره، وهذا النوع تفضله العائلات السورية المقتدرة. والبعض الآخر عبارة عن غرف مشتركة للمسافرين ذوي الإمكانات المالية المحدودة، وغالبيتهم من الأفارقة. ثم تأتي أجرة السفر على المركب، وهذه هي الأكبر. وتتراوح بين 1500 دولار و2500 دولار، حسب حالة المركب وعدد المهاجرين. ويقول السمسار: كلما قل العدد زادت الأجرة... والعكس.
ويتميز المهاجر المصري، عن القادمين من بلاد أخرى، بأنه يمكنه أن يسدد نصف ثمن الرحلة، لصاحب المركب على الشواطئ المصرية، وأن يكتب بالباقي «إيصال أمانة» تقوم أسرته بسداده فيما بعد... «هذا إذا وصلت الرحلة بسلام إلى الجانب الآخر من البحر، في أوروبا»، كما يوضح أحد السماسرة، مشيرا إلى أن عالم مراكب صيد السمك مليء بالمغامرات.
عملية التسلل إلى ليبيا
ويتم الدفع للوكيل على الشاطئ، أي قبيل انطلاق المركب في البحر. ويحصل كل من يسدد قيمة السفر على إيصال فيه اسمه وقيمة المبلغ الذي دفعه. وتتسع المراكب التي تعمل انطلاقا من شواطئ رشيد وإدكو وجمصة، عادة، لنحو مائتين أو ثلاثمائة فرد. وتمنح الأماكن الأكثر أمنا للنساء والأطفال. والمراكب عموما قديمة ومتهالكة، ومخصصة أصلا لصيادي السمك.
وفي الأسابيع التي يصعب فيها تدبير عملية تسفير للمهاجرين غير الشرعيين عبر الشواطئ المصرية، فإن السماسرة يحولون النشاط سريعا إلى الحدود مع ليبيا، عبر شبكة واسعة من الاتصالات. وعلى خلاف المسارات الجنوبية، يصل المهاجرون غير الشرعيين، من شمال مصر، إلى مدينة مرسى مطروح التي تبعد حوالي 500 كيلومتر، شمال غربي القاهرة. ومن هناك تبدأ عملية التجميع. حيث تزيد كلفة السفر على المهاجرين، بسبب طول الطريق وكثرة المتعاملين عليه، من الجانبين المصري والليبي.
ويقول مصدر على علاقة بهذا النوع من النشاط إن تجميع المهاجرين في أقصى شمال غربي البلاد، كان يتم في البداية في الفنادق والشقق المفروشة، المخصصة للمصطافين، حيث إن مدينة مرسى مطروح تعرف بأنها مدينة سياحية مصيفية قريبة من الحدود مع ليبيا. إلا أن مراقبة السلطات والتشديد في مكافحة الهجرة غير الشرعية أجبر السماسرة على نقل مراكز التجمع إلى الضواحي النائية، بعيدا عن أعين الشرطة.
ومن مرسى مطروح تجري عملية التسلل إلى ليبيا عبر طريقين. الأولى تقع في هضبة السلوم الوعرة، حيث يسير المهاجرون على الأقدام لمدة تزيد على ثلاث ساعات، قبل أن يصلوا إلى بلدة مساعد على الجانب الآخر من الحدود، ومن هناك تنقلهم سيارات الوكلاء إلى الشواطئ المحيطة بمدينتي طبرق ودرنة.
أما الطريق الثانية من الحدود فتوجد في واحة سيوة، في مواجهة واحة الجغبوب. وهي طريق أكثر بعدا لكنها أكثر أمانا، وفقا لأحد سماسرة الهجرة غير الشرعية، مشيرا إلى أن سيوة تبعد عن مرسى مطروح جنوبا بحوالي 300 كيلومتر، وهي المسافة التي ستقطعها رحلة المهاجرين شمالا في ليبيا، للوصول إلى طبرق، أو التوغل غربا ناحية طرابلس مرورا بمدينة إجدابيا. وهذه الطريق أصبحت صعبة في الشهور الأخيرة بسبب وقوعها في محور عمليات الاحتراب في ليبيا.
ولمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر الحدود المصرية الليبية، أقامت محافظة مطروح العديد من الأنشطة والفعاليات لتوعية المجتمع المحلي ومنع أبناء القبائل العارفين بدروب الصحراء، من الانخراط في العمل في مجال الهجرة غير الشرعية، إلى جانب زيادة دوريات الجيش والشرطة على الحدود مع ليبيا. وأشرف اللواء علاء أبو زيد، محافظ مطروح، على مؤتمر شعبي كبير لهذا الغرض.
ومن جانبها قامت قوات الأمن بإحباط العديد من محاولات التسلل عبر الحدود، وكانت من بين من جرى توقيفهم جنسيات أفريقية وعدد من السوريين واليمنيين، بالإضافة إلى مئات المصريين. ويقول مدير أمن مطروح، اللواء مختار السناري، إنه توجد رقابة قوية للحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، بتوجيهات من اللواء مجدي عبد الغفار، وزير الداخلية، وبالتعاون مع القوات المسلحة.
اللاجئون السوريون
[caption id="attachment_55259704" align="aligncenter" width="2322"] ورشة إصلاح سيارات؛ واحدة من مئات المشروعات التي أقامها اللاجئون السوريون، قرب الحدود المصرية الليبية، كبديل عن مواصلة السفر إلى المجهول[/caption]
وخلال الشهرين الأخيرين فقط تمكنت السلطات الأمنية على الحدود مع ليبيا من توقيف أكثر من مائتين أثناء محاولتهم عبور دروب هضبة السلوم، كان من بينهم عشرات السودانيين واليمنيين، بالإضافة إلى مصريين غالبيتهم من محافظات الصعيد الفقيرة. لكن مصدرا أمنيا في مرسى مطروح يقول إن هناك أسبابا أخرى، غير الفقر، للتسلل بطريقة غير شرعية، إلى خارج البلاد، منها محاولة الهروب من الملاحقات القضائية بالنسبة للمتورطين في أعمال مخالفة للقانون.
ويقول ذلك بناء على مشروعات تمكن اللاجئون السوريون من افتتاحها في مرسى مطروح، كبديل عن مواصلة الهجرة إلى المجهول. وافتتح السوريون في هذه البلدة الحدودية، مطاعم، وورش إصلاح سيارات، وإصلاح أجهزة كهربائية، وغيرها من الحرف. وكثيرا ما يتم ضرب المثل بقدرة السوريين على إيجاد فرص عمل لهم في مصر، في مواجهة أي شكاوى من المصريين بشأن ندرة العمل. لكن عبد المجيد يقول إن هذه الفئة من السوريين، لديها رؤوس أموال تعمل بها... «أما أنا وأبنائي فلا نملك شيئا».
ومن جانبها أعطت الحكومة المصرية دوراً كبيراً لوزارة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، من أجل التوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية، ووضع خطط لتنظيم ندوات تثقيفية بمراكز الشباب والجامعات لهذا الغرض. وفي الأسابيع الأخيرة تناولت خطب مساجد كثيرة التحذير من الهجرة غير الشرعية باعتبارها عملا من أعمال التهلكة.
كما جرى التطرق في ندوات حزبية مصرية عقدت في أحزاب الوفد والمصري الاشتراكي والتجمع، وغيرها، إلى أن المهاجر غير الشرعي يحول نفسه إلى أن يكون عرضة للاستغلال من جانب آخرين، بمن في ذلك الجماعات الإرهابية.
وفي دراسة للهيئة العامة للاستعلامات بالقاهرة، أعدها علي الملط، تقول إن مصر تأثرت، كغيرها من الدول، بموجات الهجرة غير الشرعية، باعتبارها دولة مقصدا، ومعبرا، وانطلاقا للهجرة غير الشرعية، ولذلك تبذل جهودا كبيرة لمواجهتها انطلاقا من مخاطرها التي تهدد حياة المهاجرين في المقام الأول.
ومن المقرر أن يبحث الرئيس عبد الفتاح السيسي، قضايا تتعلق بالهجرة غير الشرعية، خلال مشاركته في القمة الأفريقية المصغرة، التي تستضيفها العاصمة الألمانية برلين، الأسبوع المقبل، إلى جانب إجراء مناقشات ثنائية مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تتناول كثيرا من التطورات، ومنها قضية الهجرة غير الشرعية التي سبق وحظيت باهتمام الجانبين المصري والألماني أثناء زيارة ميركل للقاهرة في مارس (آذار) الماضي.