بيرتا بنز... المرأة التي قادت العالم إلى عصر السيارةhttps://www.majalla.com/node/310391/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D8%AA%D8%A7-%D8%A8%D9%86%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D9%82%D8%A7%D8%AF%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9
هل يمكن تخيل العالم بلا سيارات اليوم؟ من المرجح أنه لا يمكن، فالسيارة بكل أشكالها وأغراضها عصب أساسي من الجهاز الحيوي لحضارة البشرية في وقتنا الحالي، ولقد مرت بسلسلة من التطورات والتحديثات حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وهي في لحظتنا الراهنة تخوض سباقا وتنافسا عالميا في سبيل تحقيق التوازن بين تلبية حاجة البشرية إليها، والتوجه نحو الطاقة النظيفة تحت ضغط صرخات مناصري البيئة والباحثين وحراك الأنظمة السياسية والاقتصادية حماية للبيئة ومواجهة للتبدلات المناخية التي تعصف بأكثر من بقعة على كوكبنا.
في هذا الاختراع الذي ساهم في تغيير حياة البشرية، لحظة مفصلية ومؤسسة كانت بطلتها امرأة.
كلنا يسمع بـ"مرسيدس بنز" الأشهر في عالم السيارات ربما، تعود جذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر، وبراءة الاختراع ذات الرقم 37435، هي جزء من التراث الوثائقي العالمي، فمن هو صاحب الاختراع؟
إنه كارل بنز (1844 - 1929) مصمّم المحركات الألماني، ومهندس السيارات، حصل في 2 نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1888 على براءة الاختراع من مكتب براءات الاختراع الإمبراطوري عن مركبته ذات محرك الغاز، وأول سيارة، بأثر رجعي حتى 29 يناير/كانون الثاني 1885.
لولا بيرتا بنز لكان تاريخ السيارات مختلفا، ففي الخامس من أغسطس 1888، قامت بأول رحلة طويلة على متن سيارة
لا شك في أن بعض تجارب الماضي تمارس نوعا من دهشة السحر عندما نقرأ عنها، ونستعيد من التاريخ لحظة تحققها أو انبثاقها أو ولادتها، والظروف المحيطة بها، بعد أن تصبح مثل الحكايات تمارس التفاصيل فيها غواية آسرة، بالتوازي مع بؤرة الحدث، وقد تفوقه إمتاعا وإدهاشا حتى لو كان الحدث كبيرا جدا وحقق نقلة كبيرة في تاريخ البشرية.
فمن هو كارل بنز؟ وما الأكثر إدهاشا، حكايته أم حكاية زوجته بيرتا رينجر، أو بيرتا بنز لاحقا؟
عندما أُحبط كارل بنز
في 20 يوليو/تموز 1872، تزوج كارل فريدريتش بنز من كاسيلي بيرتا رينجر في بفورتسهايم. كانت قبل ذلك، وبدافع إيمانها بخطيبها المهندس الشاب الطموح، قد منحته مهرها ليضعه في مشروعه الصغير "ورشة الحديد والميكانيك" عام 1871 التي أطلق عليها لاحقا "مصنع آلات الصفائح المعدنية"، ثم في العامين 1878 و1879 طوّر المحرك الثنائي الأطوار الخالي من الضغط، وفي عام 1882، اضطر إلى تحويل شركته إلى "شركة مساهمة" تحت اسم "شركة تصنيع الموتورات الغازية آ جي"، لكن هذه الشركة لم تتفهم رؤية كارل بنز، مما دفعه إلى تركها وتأسيس شركة "بنز أند سي" في مانهايم عام 1883. وكان قد مر بأوقات عصيبة خلال تلك السنوات، لم يكن بجانبه غير زوجته المؤمنة بمواهبه وطموحه، وكانت تتمتع بجرأة وشجاعة، وحس مغامرة، ربما نمّاها شغفها الباكر بالتكنولوجيا.
فعلى الرغم من أنه صمّم، في منتصف ثمانينات القرن التاسع عشر، سيارة بنز الحاصلة، على براءة الاختراع، رقم 3، إلا أنها لم ترُق للجمهور، بل كان هناك تحفظات حولها، والنجاح الاقتصادي لم يتحقق كما هو مأمول. كانت المنافسات كبيرة في ألمانيا في مجال الابتكار والاختراع، ولقد شهدت تلك الفترة نجاح هينريتش هيرتز في اكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية وتوليدها، وعبَر فريدجوف نانسن غرينلاند على الزلاجات، وأقيم عديد من المعارض العالمية، إلا كارل بنز بقي محبطا. حثته زوجته على تقديم سيارته في معرض "الطاقة وآلات العمل" في ميونيخ. لكن هذا أيضا لم يحقق النجاح المأمول بالنسبة إلى بيرتا المغرمة بالتكنولوجيا، وهي أم لأربعة أطفال في ذلك الوقت، إذ لم تكن لترضى أو تتصور أن يُسجّل هذا الإنجاز تحت عنوان "أشياء أخرى". فكيف حدثت القفزة التي غيرت التاريخ؟
لولا بيرتا بنز لكان تاريخ السيارات مختلفا، ففي الخامس من أغسطس/آب 1888، قامت بأول رحلة طويلة على متن سيارة (105 كيلومترات)، فأثبتت لزوجها كارل بنز وللعالم أن اختراعه يعمل، وأن لديه القدرة على تغيير كل شيء. فمن هي هذه المرأة الاستثنائية؟
ولدت كاسيلي بيرتا رينجر في 3 مايو/أيار 1849، في بفورتسهايم، في عائلة ثرية، في وقت كانت النساء فيه محرومات من التعليم العالي، والناس لا يزالون يعتقدون أن المرأة مكانها البيت وإنجاب الأطفال وتربيتهم. مع التشجيع على بعض الأضاليل التي تقول إن الكثير من التفكير والتعلم يضعف القدرة على الإنجاب، أو إن أدمغة النساء أخف وزنا وأصغر حجما، وبالتالي لا يمكنها استيعاب معلومات كثيرة، مما يوحي بأنها ولدت في الزمن الخطأ، لكن هناك أخطاء حميدة وعظيمة في التاريخ.
منذ طفولتها أبدت اهتماما بالتكنولوجيا، أدرك والدها كارل فريدريتش رينجر ذلك، وهو نجار ثري، فالتفت إلى موهبتها وشجعها، وأرسلها إلى مدرسة تعليم البنات الثانوية في سن التاسعة، ومنذ تلك المرحلة انصبّ اهتمامها على العلم، ولقد أحبها والدها وأحب اهتماماتها، علما بأنه كان قد أصيب بخيبة أمل عند ولادتها، وكتب في الكتاب المقدس للعائلة "إنها مجرد فتاة أخرى"، وعندما قرأت هذه الجملة في شبابها خاب أملها، فعزمت على أن تثبت أن النساء قادرات على تحقيق أشياء قد تغير العالم، مثل الرجال تماما.
كفاف وإيمان
كان على الأسرة التي تكبر بعد ولادة أربعة أطفال، قبل أن يأتي الخامس، أن تعيش على الكفاف لسنوات عديدة لأن بنز ظل سيئ الحظ كرجل أعمال، فأدارت بيرتا المنزل بالاقتصاد الحديدي، لكنها كانت، منذ بداية ارتباطهما، قررت ألا تركن لمستقبل قد لا يكون آمنا ماليا مع مهندس شاب عاطل عن العمل، واتخذت قرارها بأن تدعمه بعد إيمانها بأنه صاحب رؤية. لم تُمنح فرصة إكمال تعليمها العالي، فهي لم تصبح مهندسة أو فنية، ومع ذلك فقد أثرت في حياة البشرية أكثر مما يمكن للمرء أن يتصور من امرأة، وهي بمنحها مهرها لزوجها من أجل دعمه في شركته، حظيت بفرصة أن تصبح مديرة للشركة.
لقد كانت أكثر جرأة مني، وقامت برحلة حاسمة لمواصلة تطوير السيارة
كارل بنز
من دون علم زوجها، في ذلك اليوم الصيفي من شهر أغسطس/آب، وكانت العطلة المدرسية قد بدأت، قامت بيرتا بأول رحلة طويلة من مانهايم إلى بفورتسهايم لزيارة والدتها، وكان برفقتها اثنان من أولادها يوجين وريتشارد (15 و13 عاما)، ووفقا للعادة فقد تركت رسالة الى زوجها على طاولة المطبخ تقول فيها إنها في طريقها إلى بفورتسهايم، إذ لطالما فكرت في سرّها بالطريقة التي تمكنها من الوصول إلى هناك في السيارة. حتى يومنا هذا تعد بيرتا بنز أول سائق سيارة وأول من يقوم برحلة تجاوزت الرحلات التجريبية القصيرة، علما أنها لم يكن لديها رخصة قيادة، وكان زوجها قبل بضعة أيام فقط قد حصل على أول رخصة قيادة في العالم، صدرت في 1 أغسطس/آب 1888، عن مكتب دوقية بادن الكبرى.
لم تكن الطرق في ذلك الوقت مخصصة للسيارات، فلقد كانت شائعة حينها العربات التي تجرّها الخيول، لذلك كان التقدم في تلك الطرق متعثرا باستمرار بسبب وعورتها، كما أنها واجهت صعوبات فنية أو مشاكل طارئة، فقد أعاقت الصمامات المسدودة والكابلات المتآكلة الرحلة مؤقتا، عدا عدم معرفة الطريق الأسهل والأقصر، فلم تكن موجودة في حينها شبكة اتصالات ولم يكن هناك أنظمة ملاحة إلكترونية، فلجأت إلى الأماكن المعروفة لتقطع الطريق مرورا بفيسلوخ وبروخسال وسولينجن آيزينجن، حتى بفورتسهايم، وطوت 105 كيلومترات خلفها، لكن طريق العودة كانت أقصر، في حدود 90 كيلومترا.
لم يكن في السيارة الأولى خزان وقود بعد، كان هناك ما يدعى "المكربن"، ولم يكن فيه إلا 4،5 ليترات من الوقود عند انطلاقها صحبة ولديها، وهذه كمية ليست كافية، كان الوقود المستخدم حينها يسمى ليغروين، ويتوافر فقط في الصيدليات، فقصدت صيدلية مدينة فيسلوخ، الصيدلية التي لا تزال موجودة إلى اليوم وعليها لوحة تذكارية "أول محطة وقود في العالم"، لتزود الوقود مما ساعد في تقدم السيارة بضعة كيلومترات. مظهرها أثار الريبة في نفس الصيدلي، وقال لها إن الليغروين لا يباع بالليترات وإنما بالسنتيمتر المكعب، وتساءل في سره: أليست المشروبات الكحولية كافية لتنظيف فستانها؟ أخيرا، وبعد إصرار حصلت على ليترين واضطرت إلى ملئه مرات عدة في لانغنبروكن وبروشسال من الصيدليات أيضا.
تحدّيات
واجهتها تحديات عدة، لكنها لم تثبط عزيمتها، بل بمهارتها وسعة خيالها استطاعت تجاوزها، وكانت تقف في بعض المحطات لترسل البرقيات إلى زوجها وتخبره بتفاصيل الرحلة، وكيف تخطّت المشكلات. استخدمت دبوس قبعتها لتنظيف أنابيب الوقود المسدودة، ورباط جواربها من أجل إصلاح جهاز الإشعال، وساعدها أحد حدادي القرية بإصلاح السلسلة، وبالتالي فقد افتتحت أول ورشة تصليح للسيارات، وقام الإسكافي بتثبيت أغطية جلدية جديدة على كتل الفرامل، بينما تتقدم الرحلة، وبيرتا عازمة على المضي في مغامرتها وتحقيق طموحها.
لم يربكها رد فعل المارة، خوفهم ودهشتهم أمام السيارة "العجيبة" التي تقودها امرأة، ولا الخيول النافرة والثيران التي تجفل وتبتعد أيضا، ولجأت إلى دفع السيارة، مع ابنيها، في الطرق الصاعدة، لأن السيارة لم تكن مزودة بعد علبة سرعة، أو ناقل حركة مناسبا، كما كان عليها الحصول على الماء لتبريد المحرك من المطاعم أو الآبار أو النوافير في المدن والقرى التي تمر فيها.
أظهرت الرحلة التي استغرقت 13 ساعة من مانهايم إلى بفورتسهايم والعودة، أن السيارة كانت عملية، وقبل كل شيء، شجعت كارل بنز، المتشكك والمحبط، على الإيمان باختراعه مرة أخرى: "لقد كانت أكثر جرأة مني، وقامت برحلة حاسمة لمواصلة تطوير السيارة". كما يتذكر لاحقا. استُثمرت الملاحظات حول الرحلة في تطوير السيارة واستخدامها، باستخدام ترس آخر وفرامل أفعل، استغرق الأمر بضع سنوات إلى أن قُبل الابتكار من عامة الناس، كانت بيرتا بنز صانعة النقطة الفارقة. وعندما بدأ فوز السيارات على مستوى العالم، الذي يعود الفضل فيه لاستخدام السرعة الثالثة، كانت بيرتا فخورة بنفسها لأنها بدأت هذا الانتصار.
ولقد فعل كارل بنز كل ما في وسعه لمساعدة سيارته في تحقيق اختراقها وعي الأخرين وقبولهم إياها، وتحقّق ذلك خلال العرض التقديمي في "معرض الطاقة وآلات العمل" في ميونيخ، في العام نفسه، وفي "إكسبو باريس" عام 1889.
لم يبق سوى شخص واحد بجانبي في سفينة الحياة الصغيرة... ذاك الشخص كان زوجتي التي بسطت أشرعة أمل جديدة بكل شجاعة
كارل بنز
منذ تلك السنوات، وبعد تلك المغامرة، بدأ تدوين تاريخ "مرسيدس بنز" إلى اليوم، صُنّعت سيارة "بنز باتن موتورفاغن" على شكل سلسلة ذهبية "بنز أند سي"، لاحقا: بنز "أند سي آ جي". وتأسّس أكبر مصنع للسيارات في العالم في 1900. في العام 1903، ترك كارل بنز شركته في مانهايم وانتقلت العائلة للسكن في لادنبورغ، وأسّس مع أبنائه مصنع "كارل بنز وأبناؤه" في 1906، وقام بتصنيع سياراته الخاصة اعتبارا من 1908، واندمج مع الشركة المنافسة "دايملر موتورن غيزيلشافت" في 1926، ولا تزال الشركتان معا تحت اسم "دايملر بنز آ جي" إلى اليوم، ومنذ ذلك الحين تعمل السيارات تحت الاسم التجاري الشهير "مرسيدس بنز".
توفي كارل بنز بعد ثلاث سنوات من الدمج، ويوجد متحف مرسيدس بنز في "شتوتغارت أونتر توركهايم". ويعرض متحف العلوم في لندن سيارة "بنز باتن موتورفاغن" رقم 3، أقدم سيارة باقية، وعلى الأرجح هي السيارة التي قامت فيها بيرتا برحلتها الأسطورية.
تكريم بيرتا بنز
لم تكن التطويرات الأولى للسيارة لتحدث لولا دعم دعم بيرتا زوجها ماليا وعمليا. كانت امرأة عظيمة، قوية، شجاعة، آمنت بطموحه وموهبته، لكنها صنعت الفارق، فهي لم تكتب تاريخ السيارات من خلال رحلتها التاريخية فحسب، بل ربما من دونها لم يكن كارل بنز ليتمكن من تكريس اختراعه في المقام الأول، أو على الأقل لم يكن ليتمكن من الوصول به إلى مرحلة النضج في السوق.
يقول كارل بنز في مذكراته: "لم يبق سوى شخص واحد بجانبي في سفينة الحياة الصغيرة في تلك الأيام، عندما كانت الأمور تسير في اتجاه الهلاك. ذاك الشخص كان زوجتي التي بسطت أشرعة أمل جديدة بكل شجاعة".
ويمكن أن نقرأ على الموقع الإلكتروني للشركة: "بإيمانها الذي لا يتزعزع، ورأس مالها وشجاعتها، دونت قصة النجاح هذه بشكل كبير". لقد شهدت الانتصار العالمي للسيارة بكل فخر، وفي عيد ميلادها الخامس والتسعين عُيّنت عضوا فخريا في مجلس الشيوخ في "جامعة كارلسروه" للتكنولوجيا، توفيت بعد يومين في 5 مايو/أيار 1944، المرأة الطموحة التي تعد أول شخص يقوم برحلة تجاوزت الرحلات التجريبية القصيرة.