أدّت بالشدياق إلى مالطة "أعمال حابطة"، أهمها خسارته لأخيه أسعد، الذي توفي في دير قنوبين بعدما سجنه الإكليروس الماروني بسبب تحوّله من المارونية إلى المذهب الإنجيلي، وردّه على أحد الأساقفة الموارنة الذي هاجم البروتستانت. كما تورّط بنو الشدياق في المؤامرة على الأمير بشير الكبير الذي حكم بين 1788- 1840 (يعرفه الإنكليز بلقب المالطي، حيث لجأ إلى مالطة بعد انهيار حكم المصريين في لبنان)، فكان هذا أيضا سببا آخر دعاه الى الرحيل، ويضاف إلى هذين السببين طموح فارس نفسه وسعيه إلى المعالي وطلب العلم والمغامرة.
الواسطة الحثيثة
يحدّد الشدياق مرام كتابه، "الواسطة في معرفة أحوال مالطة"، بقوله: "فعنّ لي أن أُظهرَ ما بطنَ منها، وأكشفَ مخبأها لمن رَغِبَ فيها أو عنها"، مما يؤكد أنه سوف يتحدّث عن الإيجابيات لمن رغب فيها والسلبيات لمن رغب عنها، لذا بدأ في الفصل الأول الذي عنونه "فصل في تخطيط مالطة معربًا"، بموقع مالطة ومساحتها وتقسيماتها الإدارية، "جملتها أربع وعشرون قرية"، وعدد سكان الجزيرة الذي كان يبلغ حينها 120ألفا، وعاصمتها الجديدة فالتة والقديمة نوتابيلي (المدينة) ومراسيها وربواتها ومزروعاتها ومحاصيلها ولغتها، والجزر الملحقة بها وهي: غودش وكمونة وفلفلة، ثم عدّد، معتمدا على المصادر، الأمم التي غزتها تباعا، منذ أول قبيلة استوطنتها وهي قبيلة الفيانكس ثم الفينيقيين أهل صور وصيدا في 1519 الذين بقوا فيها أربعمئة وخمسين عاما، ثم الإغريق ثم القرطاجنيين نحو 528 قبل الميلاد، ثم الرومان في عام 283 ق.م، وعندما تحطمت سفينة القديس بولس (سانت بول) أمام الخليج الذي يحمل الاسم نفسه دخل أهل الجزيرة في النصرانية، وبعد الرومان جاءت قبيلة الفندلس ثم القوث (القوطيون) ثم البليساريون الذين بقيت الجزيرة في أيديهم حتى سنة 780 عندما فتحها المسلمون على يد أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب.
استردّ الجزيرة من المسلمين الأمير روجر النورماني بعد مئتي سنة وألحقها بصقلية لمدة سبعين عاما، ثم دخلت مالطة في حكومة القيصر هنري السادس قيصر جرمانية في سنة 1266 لمدة اثنتين وسبعين سنة، وفي أثناء ذلك وُلّي أخو لويس ملك فرنسا حكم صقلية ومالطة معا، وبعد سنتين تغلب عليه الأمير بطرس الأراغوني، ثم آل أمرها إلى الملك كرلوس ملك صقلية، الذي ولّى عليها الفرسان من نظام مار يوحنا ليستولي عليها نابليون لفترة حتى استردّها الإنكليز في سنة 1800.
قسّمت مالطة الحديثة منذ عام 1993 إلى 68 مجلسا محليا أو منطقة إدارية أو بلدية، وأصبح عدد سكانها اليوم في آخر إحصاء رسمي 535.064 نسمة.
الإثنوغرافيا وإرهاصات الإثنولوجيا
في الفصل الثاني الذي عنونه الشدياق، "فصل في هواء مالطة ومنازهها وغير ذلك"، يذهب إلى أنها أشبه بصحن في وسط البحر وجوّها كثير التقلّب، بل يقترح تسميتها مخزن الرياح، ويتحدّث عن صيفها وشتائها والأمراض الملازمة لهما وأهمها داء المفاصل الذي قلما يسلم منه أحد في الجزيرة، حتى الشدياق نفسه، ويقول بجدّية دون أدنى سخرية أنه لا علامة على الربيع فيها سوى تكاثر البراغيث.
وفي الأرض يصف أرض مالطة بالملطة الصخرة الجرداء، ويسهب في أصناف الأشجار والبقول والخضر التي لا تكفي الجزيرة أكثر من أربعة أشهر. ويقارن بحنين طافح بين مياه النيل وماء المطر فيها الذي يخزّن في الآبار ولا يمكن شربه. ويصف أكبر متنزه في الجزيرة وهو حديقة سانت أنطونيو مقر الحاكم في الصيف، التي نزل بها الأمير بشير شهاب، وينتقد عدم وجود مقاعد فيها.
يخلص الشدياق إلى أن لا شيء في الجزيرة جديد على "الإفرنج" ليعجبوا بها. وفي لمحة "استغرابية" مباشرة، قد لا تعجب المالطيين، ينطلق فيها من مجرد الإثنوغرافيا الوصفية إلى الإثنولوجيا المقارِنة، فيطلق تعميما نتمنى ألا يكون مستمرا حتى يومنا هذا، في أن العرب لا يمكن أن يعجبوا بهذه الجزيرة لأن أهلها جميعا يكرهون جنس العرب والمسلمين على الإطلاق، وقد لا يتخيلون أي فضيلة أو أدب أو كياسة في أي عربي، ويؤمنون بأن اللغة العربية للمسلمين وحسب، وينهي الفصل بخلاصة أخرى تفوح منها رائحة الحنين إلى مصر وبلاد الشام الغنّاء قائلًا: "فما أحد ممن ألف الحظ في الحمام والبساتين والغياض والمواسم والتأنق في المطاعم يترك بلاده ويأتي إلى هذه الصخرة الصماء".
العاصمة المنمنمة
يصف الشدياق في الفصل الثالث، "فصل في فالتة قاعدة جزيرة مالطة"، بيوت مدينة فالتة بأن أغلبها بطابقين وتتمتع بطيقان مزججة ورواشن خارجة من الحائط، أي الكوة التي يدخل منها الضوء وهي أشبه بالكشك عند أهل الشام، ولكن هذه المنازل ليس فيها فوارات (نوافير) ولا ساحات فسيحة كديار دمشق. ومن يريد تأجير بيته يلصق ورقة على بابه تدل الى ذلك، فلا شيخ حارة هناك يحتفظ بالمفاتيح كما في مصر، والبيوت من الخارج جميلة وجذابة وقد لا تكون كذلك من الداخل على عكس ديار مصر والشام. أدخل الإنكليز المراحيض إلى مالطا. ويحنّ قلبه قليلًا على الجزيرة فيمتدح أخيرا خلوّها من العقارب والحيات، إذ يزعم المالطيون أن تلك كرامة من القديس بولس الذي ألقى الثعبان من يده في النار. لينقل، عائدا إلى تبرّمه بالجزيرة وأهلها، مقولة على لسان الإيطاليين تقول إن القديس بولس سحب السم من الحيات فانتقل إلى أفواه أهل مالطا. ويتبرّم الشدياق بأصوات الكنائس التي لا تهدأ، ويشتكي من عدم وجود حمّام عام وأن هناك مكانا أشبه بالحمّام، ولكنه يكلف الكثير وهو "عبارة عن مغطس دون تكييس أو تكبيس أو عرق" كما في حمّامات بلاد المسلمين.
ينتقل الشدياق الى أبنية الكنائس المزخرفة والمليئة بالتماثيل والذهب والفضة وأهمها كنيسة سان جوان التي يضبط المالطيون ساعاتهم على جرسها. ثم يتابع الحديث عن أسباب الحظ أو السعادة من الذهاب بالقوارب للاغتسال في البحر صيفا والغناء والرقص، والتنزه أمام قصر الحاكم، والأعياد الكنسية الكثيرة حيث يتمتع كل قديس بعيد خاص في زمن محدد، وعما سماه "زحلوقة" أي خشبة طويلة يدهنونها بالزيت ثم يحاولون تسلقها ليقع من يفشل في البحر، وأيام الكرنفال التي يلبس فيها الرجل كالمرأة وبالعكس في طقس يسمونه مسكرة (ربما محرّفة عن المسخرة) وعن أربعاء الرماد. ويروي أنه كلما حضر إلى وليمة الحاكم الفاخرة بزيه يخالونه من الساخرين، ويستقبح أن يرى الرجل الفاضل "راقصا كالولد". وأهم أسباب الحظ هو الملهى، "الثياطر أو الثياطرو" (المسرح)، ويسمى الممثلون الذين كان جلّهم من الإيطاليين لاعبين.
يتحدّث الشدياق بعدها عن المدرسة الجامعة للفنون واللغات حيث كان يدرّس، ويورد بدقة وبالأرقام مصاريف هذه المدرسة ودار الكتب وحوانيت الكتب المنتشرة في المدينة، ويذكر المطابع السبع في فالتة، والمستشفيات الثلاثة في الجزيرة للعسكر وللرجال وللنساء، والمستشفيات الأربعة الأخرى للمجانين وللمرضى من العساكر البحرية، وللفقراء، والرابع للطاعنين في السن. وفي مدينة فالتة أيضا فنادق عدة، ويعدّد بالأرقام مجدّدا كل ما يمكن عدّه من القناصل والقسيسين إلى أصحاب الحوانيت والمزارعين وغيرهم من كل الفئات الإحصائية التي قد تخطر في البال.
الانثروبولوجيا
يتضمّن الفصل الرابع الذي عنونه "فصل في عادات المالطيين وأحوالهم وأخلاقهم وأطوارهم" حديثا عن عادات اللباس عند الرجال والنساء، وكيف تتبختر الحامل في الشارع وترسم الصليب على بطنها إن أبصرت ذا شوهة. ويصف الشدياق الحليّ للرجال والنساء ويؤكد أنها أقل من حليّ نساء مصر والشام. ثم ينتقل إلى الأكل وعاداته الذي يشبه عادات الإنكليز، لكن الفقير قد يتناول رطلًا من الخبز بخمس حبات من الزيتون، ويؤكد أن خبزهم أردأ خبز في "بلاد الإفرنج"، كما تنتشر من أفواههم رائحة الثوم والبصل. ثم يفرق بين المالطيين العاديين و"المتنكلزون" منهم في فرش البيوت والسرر، ويقول إنهم محرومون من الاستواء على الأرائك الوثيرة فلا يقعدون إلا على الكراسي. أما في عادات الزواج فالمهر تقدّمه المرأة التي تحاجج زوجها وتخطّئه علنا وبصوت مرتفع. وفي آداب الجنازة يَستحسِنُ الشدياق عدم إقامة المآتم على الميت الذي تسمع عنه من الصحف، وتوفير العويل والنحيب. ثم يصف خلقهم حيث تغلب عليهم "السمرة والربعية في القوام، وسواد الشعر والعيون، وغلظ الحواجب، وشدة البنية وهم في الغالب أجمل من النساء".